الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **
روى ابن أبى شَيْبَةَ في (مسنده) ، من حديث عبد الله بن مسعود ، قال : بينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّى ، إذ سجد فَلَدَغَتْه عقربٌ في أُصبعه ، فانصرفَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقال : (لَعَنَ اللهُ العَقْرَبَ ما تَدَعُ نبيّاً ولا غَيْرَه) ، قال : ثُمَّ دعا بإناءٍ فيه ماء ومِلح ، فَجَعَلَ يَضَعُ موضِعَ اللَّدغة في الماء والمِلحِ ، ويقرأُ : ففى هذا الحديث العلاجُ بالدواء المركَّب مِنَ الأمرين : الطبيعىِّ والإلهىِّ ، فإنَّ في سورة الإخلاص مِن كمال التوحيد العِلمى الاعتقادى ، وإثبات الأحَدِيَّة للهِ ، المستلزِمة نفىَ كُلِّ شركة عنه ، وإثباتِ الصَّمديَّةِ المستلزمةِ لإثبات كُلِّ كمال له مع كونِ الخلائق تَصمُدُ إليه في حوائجها ، أى : تقصِدُه الخليقةُ ، وتتوجه إليه، عُلويُّها وسُفليُّها ، ونفى الوالد والولد ، والكُفْءِ عنه المتضمن لنفى الأصل، والفرع والنظير ، والمماثل مما اختصَّت به وصارت تعدِلُ ثُلُثَ القرآن ، ففى اسمه (الصمد) إثباتُ كل الكمال ، وفى نفى الكُفْءِ التنزيهُ عن الشبيه والمثال . وفى (الأحد) نفىُ كُلِّ شريك لذى الجلال ، وهذه الأُصول الثلاثة هي مجامعُ التوحيد . وفى المعوِّذتين الاستعاذةُ مِن كل مكروه جملةً وتفصيلاً ، فإنَّ الاستعاذَة مِن شَرِّ ما خلق تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُستعاذ منه ، سواء أكان في الأجسام أو الأرواح ، والاستعاذَةَ مِن شَرِّ الغاسق وهو اللَّيل ، وآيتِهِ وهو القمر إذا غاب ، تتضمن الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما ينتشِرُ فيه من الأرواح الخبيثة التي كان نورُ النهار يحولُ بينها وبين الانتشار ، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمرُ ، انتشرت وعاثت . والاستعاذة مِن شَرِّ النفاثات في العُقد تتضمن الاستعاذة من شَرِّ السواحر وسِحرهن . والاستعاذة مِن شَرِّ الحاسد تتضمن الاستعاذَة مِن النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها . والسورةُ الثانية : تتضمن الاستعاذة مِن شَرِّ شياطين الإنس والجن ، فقد جمعت السورتان الاستعاذة من كُلِّ شَرٍّ ، ولهما شأنٌ عظيم في الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها ، ولهذا أوصى النبىُّ صلى الله عليه وسلم عُقبةَ بن عامر بقراءتهما عَقِبَ كُلِّ صلاةٍ ، ذكره الترمذىُّ في (جامعه) وفى هذا سِرٌ عظيم في استدفاع الشرورِ من الصلاة إلى الصلاة . وقال : ما تَعَوَّذ المتعوِّذون بمثلهما . وقد ذُكر أنه صلى الله عليه وسلم سُحِرَ في إحدى عشرةَ عُقدة ، وأنَّ جبريلَ نزل عليه بهما ، فجعَلَ كُلَّما قرأ آية منهما انحلَّتْ عُقدة ، حتى انحلَّتْ العُقَد كُلُّها ، وكأنما أُنْشِطَ من عِقَال . وأما العلاج الطبيعى فيه ، فإنَّ في المِلح نفعاً لكثير من السُّموم ، ولا سِيَّما لدغة العقرب ، قال صاحب (القانون) : يُضمَّد به مع بذر الكتان للسع العقرب ، وذكره غيرُه أيضاً . وفى المِلح من القوة الجاذبة المحلِّلة ما يَجذِبُ السُّموم ويُحللها ، ولَمَّا كان في لسعها قوةٌ نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الماءِ المبرد لنار اللَّسعة ، والمِلح الذي فيه جذبٌ وإخراج ، وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله ، وفيه تنبيه على أنَّ علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج .. والله أعلم . وقد روى مسلم في (صحيحه) عن أبى هُريرة قال : جاء رجلٌ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ؛ ما لقيتُ مِنْ عقربٍ لَدَغْتنى البارحةَ فقال : (أما لو قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ : أعُوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ ، لم تَضُرَّك) . واعلم أنَّ الأدوية الطبيعية الإلهية تنفعُ مِن الداء بعد حصوله ، وتمنَعُ من وقوعه ، وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً ، وإن كان مؤذياً ، والأدوية الطبيعية إنما تنفعُ ، بعد حصول الداء ، فالتعوُّذاتُ والأذكار ، إما أن تمنعَ وقوعَ هذه الأسباب ، وإما أن تحولَ بينها وبين كمالِ تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه ، فالرُّقَى والعُوَذ تُسْتَعمل لحفظ الصحة ، ولإزالة المرض ، أما الأول : فكما في (الصحيحين) من حديث عائشة كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشِهِ نَفَثَ في كَفَّيْهِ : وكما في حديث عُوذة أبى الدرداء المرفوع : (اللَّهُمَّ أنت رَبِّى لا إله إلا أنت عليكَ تَوَكَّلْتُ وأنتَ رَبُّ العَرْشِ العظيم) ، وقد تقدَّم وفيه : (مَن قالها أوَّل نهارِهِ لم تُصِبْهُ مُصيبة حتى يُمسى ، ومَن قالها آخر نهارِهِ لم تُصِبْه مُصيبةٌ حتى يُصْبِح) . وكما في (الصحيحين) : (مَن قَرَأَ الآيَتَيْن مِن آخرِ سُورةِ البقرةِ في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) . وكما في (صحيح مسلم) عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم : (مَن نَزَلَ مَنْزِلاً فقال : أَعُوذُ بكلمات ِاللهِ التَّامَّاتِ مِن شرَِّ ما خَلَقَ ، لم يَضُرَّهُ شَىءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِن مَنْزِلهِ ذلِكَ) . وكما في (سنن أبى داود) أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان في السفر يقول باللَّيل :(يا أرضُ ؛ رَبِّى ورَبُّكِ اللهُ ، أَعُوذُ باللهِ مِن شَرِّكِ وشَرِّ ما فِيكِ ، وشَرِّ ما يَدُبُّ عليكِ ، أعوذُ باللهِ مِن أسَدٍ وأسْوَدٍ ، ومِن الحَيَّةِ والعقربِ ، ومِن ساكنِ البَلَدِ ، ومن والدٍ وما وَلَدَ) . وأما الثانى : فكما تقدَّم من الرُّقية بالفاتحة ، والرُّقية للعقرب وغيرها مما يأتى . قد تقدَّم من حديث أنس الذي في (صحيح مسلم) أنه صلى الله عليه وسلم (رخَّص في الرُّقْيَةِ مِنَ الحُمَةِ والعَيْنِ والنَّمْلَةِ) . وفى (سنن أبى داود) عن الشِّفَاء بنت عبد الله ، قالت : دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عِند حَفْصَة ، فقال : (ألا تُعَلِّمينَ هذه رُقية النَّمْلةِ كما عَلَّمْتِيها الكتابةَ) . النَّمْلَة : قُروح تخرج في الجنبين ، وهو داء معروف ، وسُمِّى نملةً ، لأن صاحِبَه يُحس في مكانه كأنَّ نملة تَدِبُّ عليه وَتعضُّه ، وأصنافها ثلاثة ، قال ابن قتيبة وغيرُه : كان المجوسُ يزعمون أنَّ ولد الرجل من أُخته إذا خُطَّ على النَّملَةِ ، شُفِىَ صاحبها ، ومنه قول الشاعر: وروى الخَلاَّل : أنَّ الشِّفَاء بنتَ عبد الله كانت تَرقى في الجاهلية من النَّمْلَة ، فلمَّا هاجرت إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم وكانت قد بايعته بمكة ، قالت : يا رسول الله ؛ إنِّى كنت أرقى في الجاهلية من النَّمْلَة ، وإنى أُريدُ أن أعْرِضَهَا عليكَ ، فعرضت عليه فقالت : بسم اللهِ ضَلَّت حتى تعود مِن أفواهها ، ولا تَضُرُّ أحداً ، اللَّهُمَّ اكشف البأسَ ربَّ الناسِ ، قال : ترقى بِهَا عَلَى عُودٍ سبعَ مَرات ، وتقصِدُ مَكاناً نظيفاً ، وَتَدْلُكُهُ على حجر بخَلِّ خَمرٍ حاذق ، وتَطْلِيه على النَّمْلَةِ . وفى الحديث : دليلٌ على جواز تعليم النساء الكتابة . قد تقدَّم قوله : (لا رُقْيَةَ إلا في عَيْنٍ ، أو حُمَةٍ) ، الحُمَة : بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها . وفِى (سنن ابن ماجه) من حديث عائشة : (رخَّص رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الرُّقْيَة من الحيَّةِ والعقرب) . ويُذكر عن ابن شهاب الزُّهْرى ، قال : لَدَغَ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حَيَّةٌ ، فقال النبى صَلى الله عليه وسلم : (هَلْ مِن رَاقٍ) ؟ فقالوا : يا رسول الله ؛ إن آل حزم كانوا يَرْقُون رُقيةَ الحَيَّةِ ، فلما نَهَيْتَ عن الرُّقَى تركوها ، فقال : (ادْعُو عُمارة بن حزم) فدعوه ، فعرضَ عليه رُقاه ، فقال : (لا بأسَ بها) فأذن له فيها فرقاه . أخرجا في (الصحيحين) عن عائشة قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى الإنسانُ أو كانت به قَرحةٌ أو جُرحٌ ، قال بأصبعه : هكذا ووضع سفيانُ سبَّابَتَهُ بالأرض ، ثم رفعها وقال : (بسْمِ اللهِ ، تُرْبَةُ أرضِنا بِرِيقَةِ بعضِنا ، يُشْفَى سَقِيمُنا بإذنِ رَبِّنا) . هذا من العلاج الميسر النافع المركَّب ، وهى معالجة لطيفة يُعالج بها القُروحُ والجِراحات الطرية ، لا سِيَّما عند عدم غيرِها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض ، وقد عُلِمَ أنَّ طبيعة التراب الخالص باردةٌ يابسة مجفِّفةٌ لرطوبات القروح والجراحات التي تمنع الطبيعةُ من جودة فعلها ، وسرعةِ اندمالها ، لا سِيَّما في البلاد الحارَّة ، وأصحاب الأمزجة الحارَّة ، فإنَّ القُروح والجِراحات يتبعُها في أكثر الأمر سوءُ مزاجٍ حارٍ ، فيجتمِعُ حرارة البلد والمزاجُ والجِراحُ ، وطبيعةُ التراب الخالص باردة يابسة أشدُّ مِن برودة جميع الأدوية المفردة الباردة ، فتُقَابِلُ برودةُ الترابِ حرارةَ المرض ، لا سِيَّما إن كان الترابُ قد غُسِلَ وجُفِّفَ ، ويتبعها أيضاً كثرةُ الرطوبات الرديئة ، والسيلان ، والتُّراب مُجَفِفٌ لها ، مُزِيلٌ لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها ، ويحصل به مع ذلك تعديلُ مزاج العضو العليل ، ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة ، ودفعت عنه الألم بإذن الله . ومعنى الحديث : أنه يأخذ مِن ريق نفسه على أصبعه السبابة ، ثم يضعها على التراب ، فيعلَق بها منه شىء ، فيمسح به على الجُرح ، ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله ، وتفويض الأمر إليه ، والتوكل عليه ، فينضَمُّ أحدُ العلاجين إلى الآخر ، فَيقْوَى التأثير . وهل المراد بقوله : (تُرْبَةُ أَرضِنا) جميع الأرض أو أرضُ المدينة خاصة ؟ فيه قولان ، ولا ريبَ أنَّ مِن التُربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواءٍ كثيرة ، ويشفى بها أسقاماً رديئة . قال (جالينوس) : رأيتُ بالإسكندرية مَطحُولين ، ومُستسقين كثيراً ، يستعملون طين مصر ، ويطلُون به على سُوقهم ، وأفخاذهم ، وسواعدهم ، وظهورهم ، وأضلاعهم ، فينتفعون به منفعة بَيِّنة . قال : وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهِّلة الرخوة ، قال : وإنِّى لأعرفُ قوماً ترهَّلَت أبدانُهم كُلُّها من كثرة استفراغ الدم من أسفل ، انتفعوا بهذا الطين نفعاً بَيِّناً ، وقوماً آخرين شَفَوْا به أوجاعاً مزمنة كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكناً شديداً ، فبرأت وذهبت أصلاً . وقال صاحب (الكتاب المسيحى) : قُوَّة الطين المجلوب من (كنوس) وهى جزيرة المصطكى قوة تجلو وتغسل ، وتُنبت اللحمَ في القروح ، وتختم القُروح .. انتهى . وإذا كان هذا في هذه التُرْبات ، فما الظنُّ بأطيبِ تُربة على وجه الأرض وأبركها ، وقد خالطت ريقَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وقارنت رُقيته باسم ربه ، وتفويض الأمر إليه ، وقد تقدم أن قُوَى الرُّقْيَة وتأثيرَها بحسب الراقى ، وانفعال المرقى عن رُقْيَته ، وهذا أمر لا يُنكره طبيب فاضل عاقل مسلم ، فإن انتفى أحد الأوصاف ، فليقل ما شاء . روى مسلم في (صحيحه) عن عثمان بن أبي العاص ، (أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : (ضع يَدَكَ عَلَى الَّذي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وقُل : بِسْمِ الله ثلاثاً ، وقُلْ سبع مرات : أعوذُ بِعِزَّةِ الله وقُدرَتهِ منْ شَرِّ مِا أجدُ وأُحاَذِر) ففي هذا العلاج من ذكر الله ، والتفويض إليه ، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يَذهب به ، وتكراره ليكونَ أنجعَ وأبلغ ، كتكرار الدواء لإخراج المادة ، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها ، وفي (الصحيحين) : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، (كان يعوِّذُ بعض أهله ، يمسح بيده اليمنى ، ويقول : (اللهمَّ رَبَّ الناس ، أَذهِب الباَسَ ، واشفِ أنت الشّافي ، لا شِفَاء إلا شفاؤُك ، شفاءً لا يغادرُ سَقَماً) . ففي هذه الرُقية توسل إلى الله بكمال زبوبيته ، وكما رحمته بالشفاء ، وأنه وحده الشافي ، وأنه لا شفاء إلا شِفاؤُه ، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته . قال تعالى : وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته ، فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته. أحدهما : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد عارية ، فإذا أخذه منه ، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير ، وأيضا فإنه محفوف بِعَدَمينِ : عدم قبله ، وعدم بعده ، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير ، وأيضا فإنه ليس الذي أوجده من عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ، ولا يبقى عليه وجوده ، فليس له فيه تأثير ، ولا ملك حقيقي ، وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي ، لا تصرف الملاك ، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي . والثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولاعشيرة ، ولكن بالحسنات والسيئات ، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّله ونهايته ، فكيف يفرح بموجود ، أو يأسى على مفقود ، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء ، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه . قال تعالى : ومن علاجه أن ينظر إلى ما أُصيبَ به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله ، أو أفضل منه ، وادَّخر له إن صبرَ ورضِىَ ما هو أعظمُ من فوات تِلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي . ومن عِلاجه أن يُطفئَ نارَ مصيبته ببرد التأسِّى بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعد ، ولينظر يَمْنةً ، فهل يرى إلا مِحنةً ؟ ثم ليعطف يَسْرةً ، فهل يرى إلا حسرةً ؟ ، وأنه لو فتَّش العالَم لم ير فيهم إلا مبتلىً ، إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نوم أو كظلٍّ زائلٍ ، إن أضحكتْ قليلاً ، أبكتْ كثيراً ، وإن سَرَّتْ يوماً ، ساءتْ دهراً ، وإن مَتَّعتْ قليلاً ، منعت طويلاً ، وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عَبْرة ، ولا سرَّته بيومِ سرور إلا خبأتْ له يومَ شرور . قال ابن مسعود رضى الله عنه : لكل فرحةٍ تَرْحة ، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِىءَ تَرحاً . وقال ابن سيرين : ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء . وقالت هند بنت النُّعمان : لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً ، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس ، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً خَيْرة إلا ملأها عَبرة . وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها ، فقالت : أصبحنا ذا صباح ، وما في العرب أحدٌ إلا يرجونا ، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمُنا . وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يوماً ، وهى في عِزِّها ، فقيل لها : ما يُبكيكِ ، لعل أحداً آذاك ؟ قالت : لا ، ولكن رأيتُ غَضارة في أهلى ، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلا امتلأت حُزناً . قال إسحاق بنُ طلحة : دخلتُ عليها يوماً ، فقلتُ لها : كيف رأيتِ عبراتِ الملوك ؟ فقالت : ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس ، إنَّا نجِدُ في الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون في خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة ، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه ، ثم قالت : فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَـا تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها ، بل يُضاعفها ، وهو في الحقيقة من تزايد المرض . ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاةُ والرحمة والهداية التي ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع ، أعظمُ مِن المصيبة في الحقيقة . ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويُغضب ربه ، ويَسرُّ شيطانه ، ويُحبط أجره ، ويُضعف نفسه ، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه ، وردَّه خاسئاً ، وأرضى ربه ، وسرَّ صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه ، فهذا هو الثباتُ والكمال الأعظم ، لا لطمُ الخدودِ ، وشقُّ الجيوب ، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور ، والسخَطُ على المقدور . ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه ، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذي يُبنى له في الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه ، فلينظرْ : أىُّ المصيبتين أعظمُ ؟ مصيبةُ العاجلة ، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد في جنَّة الخلد ؟ وفى الترمذى مرفوعاً : (يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض في الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ) . وقال بعضُ السَّلَف : لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس . ومِن عِلاجها : أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ من الله ، فإنه من كُلِّ شىء عِوَض إلا الله ، فما مِنه عِوَضٌ كما قيل : مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ وَمَا مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ ومن عِلاجها : أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له ، فمن رضى ، فله الرِّضى ، ومن سخِط ، فله السَّخَط ، فحظُّك منها ما أحدثته لك ، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها ، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً ، كُتِب في ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً في ترك واجب ، أو في فعل مُحَرَّم ، كُتِبَ في ديوان المفرِّطين ، وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ ، كُتِبَ في ديوان المغبونين ، وإن أحدثتْ له اعتراضاً على الله ، وقدحاً في حكمته ، فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه ، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله ، كُتِبَ في ديوان الصابرين ، وإن أحدثت له الرِّضى عن الله ، كُتِبَ في ديوان الراضين ، وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ ، كُتِبَ في ديوان الشاكرين ، وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين ، وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه ، كُتِبَ في ديوان المُحبِّين المخلصين . وفى (مسند الإمام أحمد) والترمذىِّ ، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه : (إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم ، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى ، ومَن سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ) . زاد أحمد : (ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ ) . ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ في الجَزَع غايتَه ، فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار ، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب ، قال بعض الحكماء : العاقلُ يفعل في أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام ، سلا سُلُوَّ البهائم وفى (الصحيح) مرفوعاً : (الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى) . وقال الأشعث بن قيس : إنك إن صبرتَ إيماناً واحتساباً ، وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائِم . ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ أنفع الأدوية له موافقةُ ربه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له ، وأن خاصيَّة المحبة وسِرَّها موافقةُ المحبوب ، فمَن ادَّعى محبة محبوب ، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه ، وأحبَّ ما يُسخطه ، فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتَمقَّتَ إلى محبوبه . وقال أبو الدرداء : إنَّ الله إذا قضى قضاءً ، أحب أن يُرضَى به . وكان عِمران بن حصين يقول في عِلَّته : أحَبُّهُ إلىَّ أحَبُّهُ إليه ، وكذلك قال أبو العالية . وهذا دواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمل إلا مع المُحبِّين ، ولا يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به . ومِن عِلاجها : أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والتمتعين ، وأدْوَمِهما : لذَّةِ تمتعه بما أُصيب به ، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له ، فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجِحَ ، فليحمدِ الله على توفيقه ، وإن آثر المرجوحَ مِن كل وجه ، فليعلم أنَّ مصيبتَه في عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التي أُصيب بها في دنياه ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الذي ابتلاه بها أحكمُ الحاكمين ، وأرحمُ الراحمين ، وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به ، ولا ليُعذبه به ، ولا ليَجْتاحَه ، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرُّعه وابتهالَه ، وليراه طريحاً ببابه ، لائذاً بجنابه ، مكسورَ القلب بين يديه ، رافعاً قصصَ الشكوى إليه . قال الشيخ عبد القادر : يا بُنَىَّ ؛ إنَّ المصيبةَ ما جاءت لِتُهلِكَكَ ، وإنَّما جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك ، يا بُنَىَّ ؛ القَدَرُ سَبُعٌ ، والسَّبُعُ لا يأكل الميتةَ . والمقصود : أنَّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذي يُسبَك به حاصله ، فإما أن يخرج ذهباً أحمر ، وإما أن يخرج خَبَثاً كله ، كما قيل : سَبَكْنَاه ونَحْسِبـــُهُ لُجَيْناً فأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ في الدنيا ، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم ، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين ، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه في الكِير العاجل . ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها ، لأصاب العبدَ مِن أدْواء الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه عاجلاً وآجلاً ، فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقَّده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حِمية له من هذه الأدواء ، وحِفظاً لصحة عُبوديتهِ ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه ، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه ، ويبتلى بنعمائه كما قيل: قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ الْقَـوْمِ بِالنِّعَمِ فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء ، لطَغَوا ، وبَغَوْا ، وعَتَوْا ، واللهُ سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرِغُ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه ، أهَّلَه لأشرفِ مراتب الدنيا ، وهى عبوديتُه ، وأرفع ثواب الآخرة ، وهو رؤيتُه وقُربه ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ مرارةَ الدنيا هي بعينها حلاوةُ الآخرة ، يَقلِبُها الله سبحانه كذلك ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارةُ الآخرة ، ولأَنْ ينتقل مِن مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك . فإن خَفِىَ عليك هذا ، فانظر إلى قول الصادق المصدوق : (حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارهِ ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ) وفى هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلائق ، وظهرت حقائقُ الرجال ، فأكثرُهم آثرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول ، ولم يحتمل مرارةَ ساعةٍ لِحلاوة الأبد ، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعزِّ الأبد ، ولا مِحنةَ ساعةٍ لعافيةِ الأبد ، فإنَّ الحاضر عنده شهادةٌ ، والمنتظر غيبٌ ، والإيمان ضعيفٌ ، وسلطانُ الشهوة حاكم ، فتوَلَّد من ذلك إيثارُ العاجلة ، ورفضُ الآخرة ، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأُمور ، وأوائلها ومبادئها ، وأما النظر الثاقب الذي يَخرِق حُجُب العاجلة ، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات ، فله شأنٌ آخرُ . فادع نفسك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم ، والسعادة الأبدية ، والفوز الأكبر ، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزى والعقاب والحسرات الدائمة ، ثم اخترْ أىُّ القسمَيْن أليقُ بك ، وكُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ، وكُلُّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه ، وما هو الأَوْلَى به ، ولا تستطِلْ هذا العلاج ، فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه ، وبالله التوفيق. أخرجا في (الصحيحين) من حديث ابن عباس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكَرْب : (لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع ، ورَبُّ الأرْض رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ) . وفى (جامع الترمذىِّ) عن أنس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، (كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ ، قال : (يا حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ) . وفيه عن أبى هُريرة : (أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أهمَّهُ الأَمْرُ ، رفع طرفه إلى السماء فقال : (سُبْحَانَ الله العظيمِ) ، وإذا اجتهد في الدعاء قال : (يا حَىُّ يا قَيُّومُ) . وفى (سنن أبى داود) ، عن أبى بكر الصِّدِّيق ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (دَعَواتُ المكروبِ : اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو ، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ ، لا إله إلا أنْتَ) . وفيها أيضاً عن أسماء بنت عُمَيس قالت : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا أُعلِّمُكِ كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو في الكَرْبِ: (اللهُ رَبِّى لا أُشْرِكُ به شيئاً) . وفى رواية أنها تُقال سبعَ مرات . وفى (مسند الإمام أحمد) عن ابن مسعود ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال : (ما أصابَ عبداً هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال : اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ، ابنُ عَبْدِكَ ، ابنُ أمتِكَ ، ناصِيَتى بيَدِكَ ، مَاضٍ في حُكْمُكَ ، عَدْلٌْ في قضاؤكَ ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ ، أو أنزلْتَه في كِتَابِكَ ، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك ، أو استأثَرْتَ به في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ : أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِى ، ونُورَ صَدْرى ، وجِلاءَ حُزنى ، وذَهَابَ هَمِّى ، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً) . وفى (الترمذىِّ) عن سعد بن أبى وَقَّاص ، قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (دعوةُ ذى النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو في بَطْنِ الحُوتِ : {لاَ إلهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شىءٍ قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له) . وفى رواية : (إنِّى لأعلمُ كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ إلا فرَّج الله عنه : كَلِمَةَ أخى يُونُس) . وفى (سنن أبى داود) عن أبى سعيد الخدرى قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له : أبو أُمَامة فقال : (يا أبا أُمامة ؛ ما لى أرَاكَ في المسجدِ في غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ) ؟ فقال : هُمومٌ لَزِمَتْنى وديونٌ يا رسولَ الله فقال : (ألا أُعَلِّمُكَ كلاماً إذا أنت قُلْتَهُ أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ) ؟ قال : قلتُ : بلى يا رسول الله قال : (قُلْ إذا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ : اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ من الهَمِّ والحَزَنِ وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ وأعوذُ بِكَ من الجُبْنِ والبُخْلِ وأعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال) قال : ففعلتُ ذلك فأذهب الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّى وقَضى عنى دَيْنِى . وفى (سنن أبى داود) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَن لَزِمَ الاستغفارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجاً ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب) وفى (المسند) : أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ فَزِعَ إلى الصَّلاة وقد قال تعالى : وفى (السنن) : (عَلَيْكُم بالجِهَادِ ، فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ الجَنَّةِ ، يدفعُ اللهُ به عن النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ) . ويُذكر عن ابن عباس ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم : (مَن كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ : لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ) . وثبت في (الصحيحين) : أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة . وفى (الترمذى) : أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة . هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء ، فإن لم تقو على إذهاب داءِ الهَمِّ والغَمِّ والحزن ، فهو داءٌ قد استحكم ، وتمكنت أسبابه ، ويحتاج إلى استفراغ كُلِّى .. الأول : توحيد الرُّبوبية . الثانى : توحيد الإلهية . الثالث : التوحيد العلمى الاعتقادى . الرابع : تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يُوجب ذلك . الخامس : اعتراف العبد بأنه هو الظالم . السادس : التوسُّل إلى الرَّب تعالى بأحبِّ الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعانى الأسماء والصفات : الحىُّ القَيُّوم . السابع : الاستعانة به وحده . الثامن : إقرار العبد له بالرجاء . التاسع : تحقيقُ التوكلِ عليه ، والتفويضِ إليه ، والاعترافُ له بأنَّ ناصيتَه في يده ، يُصرِّفُه كيف يشاء ، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه ، عدلٌ فيه قضاؤه . العاشر : أن يَرتَعَ قلبُه في رياض القرآن ، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان ، وأن يَسْتَضِىءَ به في ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات ، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت ، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة ، ويَستشفِىَ به من أدواء صدره ، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه ، وشفاءَ همِّه وغَمِّه . الحادى عشر : الاستغفار . الثانى عشر : التوبة . الثالث عشر : الجهاد . الرابع عشر : الصلاة . الخامس عشر : البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه . خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه ، وجعل لكل عُضو منها كمالاً إذا فقده أحسَّ بالألم ، وجعل لِمَلِكها وهو القلب كمالاً ، إذا فقده ، حضرتْه أسقامُه وآلامُه من الهموم والغموم والأحزان . فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار ، وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له مِن قوة السَّمْع ، واللِّسَانُ ما خُلِقَ له مِن قُوَّة الكلام ، فقدتْ كمالَها والقلبُ : خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به ، والابتهاج بحبه ، والرضى عنه ، والتوكل عليه ، والحب فيه ، والبغض فيه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، ودوام ذكره ، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه ، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه ، وأجَلَّ في قلبه مِن كل ما سواه ، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا لذَّةَ ، بل ولا حياة إلا بذلك ، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة ، فإذا فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته ، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه ، ورهْنٌ مقيم عليه . ومن أعظم أدوائه : الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ بِمَحابِّه ومَراضيه ، وتركُ التفويض إليه ، وقِلَّةُ الاعتماد عليه ، والركونُ إلى ما سواهُ ، والسخطُ بمقدوره ، والشكُّ في وعده ووعيده . وإذا تأملتَ أمراض القلب ، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هي أسبابُها لا سببَ لها سِواها ، فدواؤه الذي لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه العلاجات النبوية من الأُمور المضادة لهذه الأدواء ، فإنَّ المرضَ يُزال بالضد ، والصِّحةُ تُحفظ بالمِثْل ، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية ، وأمراضُه بأضدادها . فالتوحيد .. يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج ، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سببُ أسقامه ، وحِميةٌ له من التخليط ، فهى تُغْلِق عنه بابَ الشرور ، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير بالتوحيد ، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار . قال بعض المتقدمين من أئمة الطب : مَن أراد عافية الجسم ، فليقلِّلْ مِن الطعام والشراب ، ومَن أراد عافية القلب ، فليترُكْ الآثام . وقال ثابت بن قُرَّةَ : راحةُ الجسم في قِلَّة الطعام ، وراحةُ الرَّوح في قِلَّة الآثام، وراحةُ اللِّسان في قِلَّة الكلام . والذنوبُ للقلب ، بمنزلة السُّموم ، إن لم تُهلكْه أضعفتْه ، ولا بُدَّ ، وإذا ضعُفت قوته ، لم يقدرْ على مقاومة الأمراض ، قال طبيبُ القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك : وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلـُوبِ ** وَخَيرٌ لِنَفْسِــكَ عِصْيَانُهَا فالهوى أكبرُ أدوائها ، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها ، والنفس في الأصل خُلِقَتْ جاهلة ظالمة ، فهى لجهلِها تظن شِفاءَها في اتباع هواها ، وإنما فيه تلفُها وعطَبُها ، ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح ، بل تضَعُ الداء موضِعَ الدواء فتعتمده ، وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه ، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء ، واجتنابِها للدواء أنواعٌ من الأسقام والعِلل التي تُعيِى الأطباء ، ويتعذَّرُ معها الشفاء . والمصيبةُ العظمى ، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر ، فتُبرِّىء نفسَها ، وتلومُ ربَّها بلسان الحال دائماً ، وَيقوَى اللَّومُ حتى يُصرِّحَ به اللِّسان . وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال ، فلا يُطمَع في بُرئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه ، فيُحييه حياةً جديدة ، ويرزقُه طريقةً حميدة ، فلهذا كان حديث ابن عباس في دُعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية ، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم ، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة ، والإحسان والتجاوز ، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ ، والعرش الذي هو سقفُ المخلوقات وأعظمها . والرُّبوبية التامة تستلزِمُ توحيدَه ، وأنه الذي لا تنبغى العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له . وعظمتُه المطلقة تستلزمُ إثباتَ كل كمال له ، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه . وحِلمُه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه . فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه ، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم ، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه ، ويُقوِّى نفسه ، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى ، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى . ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمَّنها دعاءُ الكرب ، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق ، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور ، وهذه الأُمورُ إنما يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها ، وباشر قلبُه حقائقَها . وفى تأثير قوله : (يا حىُّ يا قَيُّومُ ، برحمتِك أستغيثُ) في دفع هذا الداء مناسبة بديعة ، فإنَّ صفة الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال ، مستلزمة لها ، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال ، ولهذا كان اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا دُعىَ به أجاب ، وإذا سُئِلَ به أعطى : هو اسمُ الحَىّ القَيُّوم ، والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام ، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا حَزَنٌ ولا شىء من الآفات . ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال ، وتنافى القيومية ، فكمالُ القيومية لكمال الحياة ، فالحىُّ المطلق التام الحياة لا يفوتُه صِفة الكمال ألبتة ، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة ، فالتوسل بصفة الحياة والقَيُّومية له تأثيرٌ في إزالة ما يُضادُّ الحياة ، ويضُرُّ بالأفعال . ونظير هذا توسلُ النبى صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه ، فإنَّ حياة القلب بالهداية ، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة ، فجبريلُ موَّكلٌ بالوحى الذي هو حياةُ القلوب ، وميكائيل بالقَطْر الذي هو حياةُ الأبدان والحيوان ، وإسرافيل بالنَّفْخ في الصُّور الذي هو سببُ حياةِ العالَم وعَودِ الأرواح إلى أجسادها ، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير في حصول المطلوب . والمقصود : أن لاسم الحىّ القَيُّوم تأثيراً خاصاً في إجابة الدعوات ، وكشف الكُربات . وفى (السنن) و(صحيح أبى حاتم) مرفوعاً : (اسمُ اللهِ الأعْظَم في هاتَيْنِ الآيتين : وفى (السنن) و(صحيح ابن حِبَّان) أيضاً : من حديث أنس أنَّ رجلاً دعا ، فقال : اللَّهُمَّ إنِّى أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ ، لا إلَهَ إلا أنتَ المنَّانُ ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ ، ياذا الجلال والإكرام ، يا حىُّ يا قَيُّومُ ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : (لقد دَعَا اللهَ باسمِهِ الأعْظَم الذي إذا دُعِىَ به أجابَ ، وإذا سُئِلَ به أعْطَى) . ولهذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء ، قال : (يَا حىُّ يا قَيُّومُ) . وفى قوله : (اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو ، فلا تَكِلْنى إلى نفسى طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لى شأنى كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ أنتَ) من تحقيق الرجاء لمن الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده ، وتفويضُ الأمر إليه ، والتضرع إليه ، أن يتولَّى إصلاح شأنه ، ولا يَكِلَه إلى نفسه ، والتوسُّل إليه بتوحيده مما له تأثيرٌ قوى في دفع هذا الداء ، وكذلك قوله : (اللهُ ربِّى لا أُشْرِكُ بِه شَيْئاً) . وأما حديث ابن مسعود : (اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ) ، ففيه من المعارف الإلهية ، وأسرارِ العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب ، فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته ، وأنَّ ناصيته بيده يُصرِّفها كيف يشاء ، فلا يملِك ُ العبدُ دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياةً ، ولا نُشوراً ، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره ، فليس إليه شىءٌ من أمره ، بل هو عانٍ في قبضته ، ذليل تحت سلطان قهرِه . وقوله : (ماضٍ في حُكْمُكَ عَدْلٌ في قضاؤكَ) متضمنٌ لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد . أحدهما : إثباتُ القَدَر ، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ في عبده ماضيةٌ فيه ، لا انفكاكَ له عنها ، ولا حِيلةَ له في دفعها . والثانى : أنه سبحانه عدلٌ في هذه الأحكام ، غير ظالم لعبده ، بل لا يخرُج فيها عن موجب العدل والإحسان ، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم ، أو جهلُه ،أو سفهُه ، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل شىء عليمٌ ، ومَن هو غنىٌ عن كل شىء ، وكلُّ شىء فقيرٌ إليه ، ومَنْ هو أحكم الحاكمين ، فلا تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده ، كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته ، فحِكمته نافذة حيثُ نفذتْ مشيئته وقُدرته ، ولهذا قال نبىُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم ، وقد خَوَّفه قومُه بآلهتهم : ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذي يرتَع فيه الحيوانُ ، وكذلك القرآنُ ربيعُ القلوب ، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه ، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذي يستأصِلُ الداء ، ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله ، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذي يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها ، فأحْرَى بهذا العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يُزيلَ عنه داءه ، ويُعقبه شفاءً تاماً ، وصحةً وعافيةً .. والله الموفق . وأما دعوةُ ذى النون .. فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى ، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج ، فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه . والاعترافُ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب ، ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله ، واستقالته عثرتَه ، والاعترافَ بعبوديته ، وافتقاره إلى ربه ، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها : التوحيد ، والتنزيه ، والعبودية ، والاعتراف . وأما حديث أبى أمامة : (اللَّهُمَّ إنِّى أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ) ، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية أشياء ، كُلُّ اثنين منها قَرينان مزدوجان ، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان ، والعجزُ والكسلُ أخوان ، والجُبنُ والبُخلُ أَخوان ، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان ، فإنَّ المكروه المؤلم إذا ورد على القلب ، فإما أن يكون سببهُ أمراً ماضياً ، فيُوجب له الحزن ، وإن كان أمراً متوقعاً في المستقبل ، أوجب الهم ، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه ، إما أن يكون مِن عدم القُدرة وهو العجز ، أو من عدم الإرادة وهو الكسل ، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه وعن بنى جنسه ، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه ، فهو الجُبن ، أو بماله ، فهو البخل ، وقهرُ النَّاس له إما بحق ، فهو ضَلَعُ الدَّيْن ، أو بباطل فهو غَلبَةُ الرِّجال ، فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ . وأما تأثيرُ الاستغفار في دفع الهَّمِّ والغَمِّ والضِّـيق ، فلِمَا اشترَكَ في العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة أنَّ المعاصىَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ والغَمَّ ، والخوفَ والحُزن ، وضيقَ الصدر ، وأمراض القلب ، حتى إنَّ أهلها إذا قضَوْا منها أوطارَهم ، وسئمتها نفوسُهم ، ارتكبوها دفعاً لما يَجِدُونه في صدورهم من الضيق والهَمِّ والغَمِّ ، كما قال شيخُ الفسوق: وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب ، فلا دواءَ لها إلا التوبةُ والاستغفار وأما الصَّلاةُ .. فشأنها في تفريح القلب وتقويته ، وشرحِه وابتهاجه ولذَّته أكبرُ شأن ، وفيها من اتصالِ القلب والروح بالله ، وقربه والتنعم بذكره ، والابتهاجِ بمناجاته ، والوقوفِ بين يديه ، واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته في عبوديته ، وإعطاء كل عضو حظَّه منها ، واشتغالهِ عن التعلُّق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم ، وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره ، وراحتِه من عدوِّه حالةَ الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التي لا تُلائم إلا القلوبَ الصحيحة . وأمَّا القلوبُ العليلة ، فهى كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية الفاضلة . فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة ، وهى منهاةٌ عن الإثم ، ودافعةٌ لأدواء القلوب ، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد ، ومُنوِّرةٌ للقلب ، ومُبيِّضَةٌ للوجه ، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس ، وجالِبةٌ للرزق ، ودافعةٌ للظلم ، وناصِرةٌ للمظلوم ، وقامِعةٌ لأخلاط الشهوات ، وحافِظةٌ للنعمة ، ودافِعةٌ للنِّقمة ، ومُنزِلةٌ للرحمة ، وكاشِفة للغُمَّة ، ونافِعةٌ من كثير من أوجاع البطن . وقد روى ابن ماجه في (سننه) من حديث مجاهد ، عن أبى هريرة قال : رآنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى ، فقال لى : (يا أبا هُرَيْرَة ؛ أشِكَمَتْ دَرْدْ) ؟ قال : قلتُ : نعم يا رسولَ الله ، قال : (قُمْ فَصَلِّ ، فإنَّ في الصَّلاةِ شِفَاءً) . وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفاً على أبى هُرَيرةَ ، وأنه هو الذي قال ذلك لمجاهد ، وهو أشبهُ . ومعنى هذه اللفظةِ بالفارسى : أيوجعُكَ بطنُكَ ؟ فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج ، فيُخاطَبُ بصناعة الطب ، ويقالُ له : الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعاً ، إذ كانت تشتمِلُ على حركات وأوضاع مختلفة مِن الانتصاب ، والركوع ، والسجود ، والتورُّك ، والانتقالات وغيرها من الأوضاع التي يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل ، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء الباطنة ، كالمَعِدَة ، والأمعاء ، وسائر آلات النَّفَس ، والغذاء ، فما يُنكر أن يكونَ في هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ للمواد ، ولا سِيَّما بواسطة قوةِ النفس وانشراحِها في الصلاة ، فتقوى الطبيعة ، فيندفع الألم . ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ ، والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ ليس له دواء إلا نارٌ تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأشْقَى الذي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وأمَّا تأثيرُ الجهادِ في دفع الهم والغم ، فأمرٌ معلوم بالوجدان ، فإنَّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل وصَوْلته واستيلاءَه ، اشتد همُّها وغمُّها ، وكربُها وخوفها ، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ والحُزْنَ فرحاً ونشاطاً وقوةً ، كما قال تعالى : وأمَّا تأثيرُ (لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله) في دفع هذا الداءِ ، فلِما فيها من كمالِ التفويضِ ، والتبرِّى من الحَوْل والقُوَّة إلا به ، وتسليمِ الأمر كله له ، وعدمِ منازعته في شىء منه ، وعموم ذلك لكلِّ تحوُّلٍ من حَال إلى حال في العالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ ، والقوةِ على ذلك التحول ، وأنَّ ذلك كُلَّه باللهِ وحدَه ، فلا يقوم لهذه الكلمة شىء . وفى بعض الآثار : إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء ، ولا يَصعَدُ إليها إلا بـ (لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله) ، ولها تأثيرٌ عجيب في طرد الشيطان .. والله المستعان . روى الترمذىُّ في (جامعه) عن بُريدةَ قال : شكى خالدٌ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ؛ ما أنام الليل مِن الأرَقِ ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم : (إذا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ : اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ السَّـبْع وَمَا أظَلَّتْ ، ورَبَّ الأرَضِينَ ، وَمَا أَقَلَّتْ ، وربَّ الشَّيَاطينِ وما أضَلَّتْ ، كُنْ لَى جاراً مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جميعاً أنْ يَفْرُطَ علىَّ أحدٌ مِنْهُمْ ، أَوْ يَبْغىَ عَلَىَّ ، عَزَّ جَارُك ، وجَلَّ ثَنَـاؤُكَ ، ولا إلهَ غَيْرُك) . وفيه أيضاً : عن عمرو بن شُعيب ، عن أبيه ، عن جده أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، كان يُعَلِّمُهم مِنَ الفَزَعِ : (أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التامَّةِ مِنْ غَضِبهِ ، وعِقَابِهِ ، وَشرِّ عِبَادِه ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ، وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحضُرُونِ) ، قال : وكان عبد الله بن عَمْرو يُعَلِّمُهنَّ مَن عَقَلَ من بنيه ، ومَن لم يَعْقِلْ كتبه ، فأعلقه عليه ، ولا يخفى مناسبةُ هذه العُوذَةِ لعلاج هذا الداءِ . يُذكر عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (إذَا رَأيتُمُ الحَرِيقَ فَكَبِّروا ، فإنَّ التكبيرَ يُطفِئُهُ) . لما كان الحريقُ سببهُ النارُ ، وهى مادةُ الشيطان التي خُلِقَ منها ، وكان فيه من الفساد العام ما يُنَاسب الشيطان بمادته وفعلِه ، كان للشيطان إعانةٌ عليه ، وتنفيذ له ، وكانت النارُ تطلبُ بطبعها العلوَ والفسادَ ، وهذان الأمران وهما العلوُّ في الأرض والفسادُ هما هَدْىُ الشيطان ، وإليهما يدعو ، وبهما يُهلِكُ بنى آدم ، فالنار والشيطان كل منهما يُريد العلو في الأرض والفسادَ ، وكبرياءُ الرب عَزَّ وجَلَّ تَقمَعُ الشيطانَ وفِعلَهُ . ولهذا كان تكبيرُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ له أثرٌ في إطفاء الحريق ، فإنَّ كبرياء الله عَزَّ وجَلَّ لا يقوم لها شىء ، فإذا كبَّر المسلمُ ربَّه ، أثَّر تكبيرُه في خمودِ النار وخمودِ الشيطان التي هي مادته ، فيُطفىءُ الحريقَ ، وقد جرَّبنا نحن وغيرُنا هذا ، فوجدناه كذلك .. والله أعلم . لما كان اعتدالُ البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاوِمةِ للحرارة ، فالرطوبة مادته ، والحرارةُ تُنضِجُهَا ، وتدفع فضلاتِها ، وتُصلحها ، وتلطفها ، وإلا أفسدتْ البدن ولم يمكن قيامُه ، وكذلك الرطوبةُ هي غِذاءُ الحرارة ، فلولا الرطُوبة ، لأحرقتْ البدن وأيبَسَتْه وأفسدته ، فقِوامُ كُلِّ واحدة منهما بصاحبتها ، وقِوام البدنِ بهما جميعاً ، وكُلٌ منهما مادة للأُخرى ، فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة ، والرطوبة مادة للحرارة تغذُوها وتحمِلُها ، ومتى مالتْ إحداهما إلى الزيادة على الأُخرى ، حصل لمزاج البدن الانحرافُ بحسب ذلك ، فالحرارةُ دائماً تُحَلِّلُ الرطوبة ، فيحتاجُ البدن إلى ما به يُخلَف عليه ما حلَّلتْه الحرارة لضرورة بقائهِ وهو الطعامُ والشرابُ ، ومتى زاد على مقدار التحللِ ، ضعُفتِ الحرارةُ عن تحليل فضلاته ، فاستحالتْ موادَّ رديئة ، فعاثتْ في البدن ، وأفسدتْ ، فحصلت الأمراضُ المتنوعة بحسب تنوُّع موادِّها ، وقبولِ الأعضاء واستعدادِها ، وهذا كُلُّه مستفَادٌ من قوله تعالى : فحفظ الصحة كله في هاتين الكلمتين الإلهيتين ، ولا ريب أنَّ البدن دائماً في التحلل والاستخلاف ، وكُلَّما كثر التحلُّل ضعفت الحرارة لفناء مادتها ، فإنَّ كثرةَ التحلل تُفنى الرطوبة ، وهى مادة الحرارة ، وإذا ضعفت الحرارة ، ضعفَ الهضم ، ولا يزال كذلك حتى تَفنى الرطوبةُ ، وتنطفئ الحرارة جملةً ، فيستكملُ العبدُ الأجلَ الذي كتب اللهُ له أن يَصِلَ إليه .فغايةُ علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسةُ البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة ، لا أنه يستلزمُ بقاءَ الحرارة والرطوبة اللَّتين بقاءُ الشباب والصحة والقوَّة بهما ، فإنَّ هذا مما لم يحصُلْ لبَشَر في هذه الدار ، وإنما غايةُ الطبيب أن يحمىَ الرطوبةَ عن مفسداتها من العفونة وغيرها ، ويحمىَ الحرارة عن مُضعِفاتها ، ويعدل بينهما بالعدل في التدبير الذي به قام بدنُ الإنسان ، كما أنَّ به قامت السمواتُ والأرضُ وسائرُ المخلوقات ، إنما قوامُها بالعدل ومَن تأمَّل هَدْىَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم وجده أفضلَ هَدْى يُمكن حِفظُ الصِّحة به ، فإنَّ حفظها موقوفٌ على حُسن تدبير المطعم والمشرب ، والملبس والمسكن ، والهواء والنوم ، واليقظة والحركة ، والسكون والمَنكَح ، والاستفراغ والاحتباس ، فإذا حصَلتْ هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسِّنِّ والعادة ، كان أقربَ إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل ولـمَّا كانت الصحةُ والعافيةُ من أجَلِّ نِعَم الله على عبده ، وأجزل عطاياه ، وأوفر مِنحه ، بل العافيةُ المطلقة أجَلُّ النِّعَمِ على الإطلاق ، فحقيق لمن رُزق حظاً مِن التوفيق مراعاتها وحِفظها وحمايتُها عمَّا يُضادها . وقد روى البخارىُّ في (صحيحه) من حديث ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس : الصِّحَّةُ والفَرَاغُ) . وفى (الترمذى) وغيره من حديث عُبَيْد الله بن مِحصَن الأنصارى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَن أصْبَحَ مُعَافىً في جَسَدِهِ ، آمناً في سِرْبِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فكأنما حِيزَتْ لَهُ الدُّنيا) . وفى (الترمذى) أيضاً من حديث أبى هريرة ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : (أوَّلُ ما يُسْألُ عنه العَبْدُ يومَ القيامَةِ مِنَ النَّعِيم ، أن يُقال له : أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ ، ونُرَوِّكَ مِنَ الماءِ البارد) . ومن هاهنا قال مَن قال مِن السَّلَف في قوله تعالى : وفى (مسند الإمام أحمد) : أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال للعباس : ( يا عباس ، يا عَمَّ رسول اللهِ ؛ سَلِ اللهَ العافِيةَ في الدُّنْيَا والآخِرَة) . وفيه عن أبى بكر الصِّدِّيق ، قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : (سَلُوا اللهَ اليَقينَ والمُعافاةَ ، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ اليقينِ خَيراً من العافية) ، فجمع بين عافيتى الدِّينِ والدنيا ، ولا يَتِمُّ صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية ، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة ، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه . وفى (سنن النسائى) من حديث أبى هريرة يرفعه : (سَلُوا اللهَ العَفْوَ والعافيةَ والمُعافاة ، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ يقينٍ خيراً من مُعافاةٍ) . وهذه الثلاثة تتضمَّن إزالة الشرور الماضية بالعفو ، والحاضرة بالعافية ، وَالمستقبلة بالمعافاة ، فإنها تتضمن المداومةَ والاستمرارَ على العافية . وفى (الترمذى) مرفوعاً : (ما سُئِلَ اللهُ شيئاً أحبَّ إلَيْهِ من العافيةِ) . وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى : عن أبى الدرداء ، قلت : يا رسول الله ؛ لأن أُعافَى فأشكُر أحبُّ إلىَّ من أن أُبتََلى فأصبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ورسولُ اللهِ يُحِبُّ مَعَكَ العافِيَةَ) . ويُذكر عن ابن عباس أنَّ أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : ما أسألُ الله بعد الصلواتِ الخمس ؟ فقال : (سَلِ اللهَ العافيةَ) ، فأعاد عليه ، فقال له في الثالثة : (سَلِ اللهَ العَافِيةَ في الدُّنيا والآخرَة) . وإذا كان هذا شأنَ العافية والصحةِ ، فنذكُرُ من هَدْيه صلى الله عليه وسلم في مراعاة هذه الأُمور ما يتبيَّنُ لمن نظر فيه أنه أكملُ هَدْى على الإطلاق ينال به حفظَ صحةِ البدن والقلب ، وحياة الدُّنيا والآخرة ، والله المستعانُ ، وعليه التُّكلان ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله . فأما المطعمُ والمشرب ، فلم يكن مِن عادته صلى الله عليه وسلم حبسُ النفسِ على نوع واحد من الأغذية لا يتعدَّاه إلى ما سواه ، فإنَّ ذلك يضر بالطبيعة جداً ، وقد سيتعذَّر عليها أحياناً ، فإن لم يتناول غيرَه ، ضعفَ أو هلكَ ، وإن تناول غيره ، لم تقبله الطبيعة ، واسْتضرَّ به ، فقصرها على نوع واحد دائماً ولو أنه أفضل الأغذية خطرٌ مُضر.بل كان يأكل ما جرت عادةُ أهل بلده بأكله مِنَ اللَّحم ، والفاكهة ، والخُبز ، والتمر ، وغيره مما ذكرناه في هَدْيه في المأكول ، فعليك بمراجعته هناك وإذا كان في أحد الطعامين كيفيةٌ تحتاجُ إلى كسرٍ وتعديلٍ ، كسَرها وعدلها بضدها إن أمكن ، كتعديل حرارة الرُّطَبِ بالبطيخ ، وإن لم يجد ذلك ، تناوَله على حاجة وداعيةٍ من النفس من غير إسراف ، فلا تتضرر به الطبيعة وكان إذا عافت نفسُه الطعامَ لم يأكله ، ولم يُحمِّلْها إيَّاه على كُره ، وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة ، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ، ولا تشتهيه ، كان تضرُّره به أكثر من انتفاعه . قال أنس : ما عابَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قَطُّ ، إن اشتهاه أكلَه ، وإلا تركه ، ولم يأكلْ منه . ولمَّا قُدِّمَ إليه الضَّبُّ المشوىُّ لم يأكلْ منه ، فقيل له : أهو حرامٌ ؟ قال : (لا ، ولكنْ لم يكن بأرضِ قَوْمى ، فأجِدُنى أعافُه) . فراعى عادتَه وشهوتَه ، فلمَّا لم يكن يعتادُ أكله بأرضه ، وكانت نفسُه لا تشتهيه ، أمسَكَ عنه ، ولم يَمنع مِن أكله مَن يشتهيه ، ومَنْ عادتُه أكلُه . وكان يحبُّ اللَّحم ، وأحبُّه إليه الذراعُ ، ومقدم الشاة ، ولذلك سُمَّ فيه .وفى (الصحيحين) : (أُتِىَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فرُفِع إليه الذراع ، وكانت تُعجبُه) .وذكر أبو عُبيدة وغيره عن ضباعَة بنت الزُّبير ، أنها ذَبحتْ في بيتها شاةً ، فأرسل إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ أطعِمِينا من شاتكم ، فقالت للرسول : ما بقىَ عندَنا إلاَّ الرَّقبةُ ، وإنى لأستحى أنْ أُرسلَ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع الرسولُ فأخبره ، فقال : (ارْجِعْ إليها فقلْ لها : أَرْسِلى بِهَا ، فإنَّها هاديةُ الشَّاةِ وأقْرَبُ إلى الخَيْر ، وأبعدُها مِنَ الأذَى) ولا ريب أن أخفَّ لحمِ الشاة لحمُ الرقبة ، ولحمُ الذراع والعَضُد ، وهو أخفُّ على المَعِدَة ، وأسرعُ انهضاماً ، وفى هذا مراعاةُ الأغذية التي تجمع ثلاثةَ أوصاف ؛ أحدها : كثرةُ نفعها وتأثيرها في القُوَى . الثانى : خِفَّتُها على المَعِدَة ، وعدمُ ثقلها عليها . الثالث : سرعةُ هضمها ، وهذا أفضل ما يكون من الغِذاء . والتغذِّى باليسير من هذا أنفعُ من الكثير من غيره . وكان يُحب الحَلْواءَ والعسلَ ، وهذه الثلاثة أعنى : اللَّحم والعسل والحلواء من أفضل الأغذية ، وأنفعها للبدن والكَبِد والأعضاء ، وللاغتذاء بها نفعٌ عظيم في حفظ الصحة والقوة ، ولا ينفِرُ منها إلا مَن به عِلَّةٌ وآفة . وكان يأكُلُ الخبز مأدُوماً ما وَجَدَ له إداماً ، فتارةً يَأدِمُه باللَّحم ويقول : (هُوَ سَـيِّدُ طعامِ أهلِ الدُّنيا والآخرةِ) رواه ابن ماجه وغيره (وتارة بالبطيخ ، وتارةً بالتمر ،فإنه وضع تمرة على كِسْرة شعير ، وقال : (هذا إدامُ هذه) . وفى هذا من تدبير الغذاء أنَّ خبز الشعير بارد يابس ، والتمر حار رطب على أصح القولين ، فأَدمُ خبزِ الشعير به من أحسن التدبير، لا سِيَّما لمن تلك عادتُهم، كأهل المدينة ، وتارةً بالخَلِّ ، ويقول : (نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ) ، وهذا ثناءٌ عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر ، لا تفضيلٌ له على غيرِه ، كما يظن الجُهَّالُ ، وسببُ الحديث أنه دخَلَ على أهله يوماً ، فقدَّموا له خبزاً ، فقال: (هَل عِنْدَكُم مِن إدَامٍ) ؟ قالوا : ما عِندَنا إلاَّ خَل . فقال : (نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ) . والمقصود : أنَّ أكل الخبز مأدوماً من أسباب حِفظ الصحة ، بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده . وسُمِىَ الأُدمُ أُدماً : لإصلاحه الخبزَ ، وجعلِه ملائماً لحفظ الصحة . ومنه قوله في إباحته للخاطب النظرَ : (إنه أحْرَى أنْ يُؤدَمَ بيْنَهما) ، أى : أقربُ إلى الالتئام والموافقة ، فإنَّ الزوجَ يدخل على بصيرة ، فلا يندَم . وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ، ولا يَحتمِى عنها ، وهذا أيضاً من أكبر أسباب حفظ الصحة ، فإنَّ الله سبحانه بحكمته جعل في كل بلدةٍ من الفاكهة ما ينتفِعُ به أهلُها في وقتِهِ ، فيكونُ تناولُه من أسباب صحتِهم وعافيتِهم ، ويُغنى عن كثير من الأدوية ، وقَلَّ مَن احتَمى عن فاكهة بلده خشيةَ السُّقم إلا وهو مِن أسقم الناس جسماً ، وأبعدِهم من الصحة والقوة .وما في تلك الفاكهة من الرطوبات ، فحرارةُ الفصل والأرض ، وحرارةُ المَعِدَة تُنضِجُهَا وتدفع شرها إذا لم يُسْرِفْ في تناولها ، ولم يُحمِّلْ منها الطبيعةَ فوق ما تَحْتَمِله ، ولم يُفسد بها الغذاء قبل هضمه ، ولا أفسَدَها بشرب الماء عليها ، وتناولِ الغذاء بعد التحلِّى منها ، فإن القُولَنْج كثيراً ما يَحدث عند ذلك ، فمَن أكل منها ما ينبغى في الوقت الذي ينبغى على الوجه الذي ينبغى ، كانت له دواءً نافعاً . صحَّ عنه أنه قال : (لا آكُلُ مُتَّكِئاً) ، وقال : (إنما أجْلِسُ كما يَجْلِسُ العبدُ ، وآكُلُ كما يأكُلُ العبدُ) . وروى ابن ماجه في (سننه) أنه نَهى أن يأكلَ الرجلُ وهو منبطحٌ على وجهه .وقد فُسِّر الاتكاءُ بالتربُّع ، وفُسِّر بالاتكاء على الشىء ، وهو الاعتمادُ عليه ، وفُسِّر بالاتكاء على الجنب . والأنواعُ الثلاثة من الاتكاء ، فنوعٌ منها يضرُّ بالآكل ، وهو الاتكاء على الجنب ، فإنه يمنعُ مجرَى الطعام الطبيعى عن هيئته ، ويَعوقُه عن سرعة نفوذه إلى المَعِدَة ، ويضغطُ المَعِدَةَ ، فلا يستحكم فتحُها للغذاء ، وأيضاً فإنها تميل ولا تبقى منتصبة ، فلا يصل الغذاء إليها بسهولة . وأما النوعان الآخران : فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية ، ولهذا قال : (آكُلُ كما يأكُلُ العبد) وكان يأكل وهو مُقْعٍ ، ويُذكر عنه أنه كان يجلس للأكل مُتَورِّكاً على ركبتيه ، ويضعُ بطنَ قدمِه اليُسْرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعاً لربه عَزَّ وجَلَّ ، وأدباً بين يديه ، واحتراماً للطعام وللمؤاكِل ، فهذه الهيئة أنفعُ هيئات الأكل وأفضلُها ، لأنَّ الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذي خلقها الله سبحانه عليه مع ما فيها من الهيئة الأدبية ، وأجودُ ما اغتذى الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعى ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصباً الانتصابَ الطبيعى ، وأردأ الجلسات للأكل الاتكاءُ على الجنب ، لما تقدم من أن المَرِىء ، وأعضاء الازدراد تضيقُ عند هذه الهيئة ، والمَعِدَةُ لا تبقى على وضعها الطبيعى ، لأنها تنعصر مما يلى البطن بالأرض ، ومما يلى الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء ، وآلات التنفس وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذي تحت الجالس ، فيكون المعنى أَنى إذا أكلت لم أقعد متكئاً على الأوْطِية والوسائد ، كفعل الجبابرة ، ومَن يُرِيد الإكثار من الطعام ، لكنى آكُلُ بُلْغةً كما يأكل العبد . وكان يأكُلُ بأصابعه الثَّلاث ، وهذا أنفعُ ما يكون من الأكلات ، فإنَّ الأكل بأصبع أو أُصبعين لا يَستلذُّ به الآكل ، ولا يُمريه ، ولا يُشبعه إلا بعدَ طول ، ولا تفرحُ آلاتُ الطعام والمَعِدَةُ بما ينالها في كل أكلة ، فتأخذَها على إغماضٍ ، كما يأخذ الرجل حقَّه حبَّةً أو حبَّتَين أو نحوَ ذلك ، فلا يلتذُّ بأخذه ، ولا يُسَرُّ به ، والأكل بالخمسة والراحةِ يُوجب ازدحامَ الطعام على آلاته ، وعلى المَعِدَةُ ، وربما انسدَّت الآلات فمات ، وتُغصبُ الآلاتُ على دفعه ، والمَعِدَةُ على احتماله ، ولا يجد له لذةً ولا استمراءً ، فأنفعُ الأكل أكلُه صلى الله عليه وسلم وأكلُ مَن اقتدى به بالأصابع الثلاث . ومَن تدبَّر أغذيته صلى الله عليه وسلم وما كان يأكلهُ ، وجَده لم يجمع قَطُّ بين لبن وسمك ، ولا بين لبن وحامض ، ولا بين غذائين حارَّين ، ولا بارِدين ، ولا لَزِجَين ، ولا قابضين ، ولا مُسهلين ، ولا غليظين ، ولا مُرخيين ، ولا مستحيلين إلى خلط واحد ، ولا بين مختلفَين كقابض ومسهل ، وسريع الهضم وبطيئه ، ولا بين شَوىٍّ وطبيخ ، ولا بين طَرىٍّ وقَديد،ولا بين لبن وبيض ، ولا بين لحم ولبن ، ولم يكن يأكل طعاماً في وقت شدة حرارته ، ولا طبيخاً بائتاً يُسخَّن له بالغد ، ولا شيئاً من الأطعمة العَفِنَةِ والمالحة ، كالكَوامخ والمخلَّلات ، والملوحات . وكل هذه الأنواع ضار مولِّدٌ لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال .وكان يُصلح ضرر بعض الأغذية ببعض إذا وَجد إليه سبيلاً ، فيكسرُ حرارةَ هذا ببرودة هذا ، ويُبوسةَ هذا برطُوبة هذا ، كما فعل في القِثَّاء والرُّطَب ، وكما كان يأكل التمر بالسَّمن ، وهو الحَيْسُ ، ويشربُ نقيع التمر يُلطِّف به كَيْمُوساتِ الأغذية الشديدة وكان يأمر بالعَشاء ، ولو بكفٍّ من تمر ، ويقول : (تَرْكُ العَشاءِ مَهْرَمةٌ) ، ذكره الترمذىُّ في (جامعه) ، وابن ماجه في (سننه) وذكر أبو نُعيم عنه أنه كان ينهى عن النوم على الأكل ، ويذكر أنه يُقسى القلب ، ولهذا في وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة : أن يمشىَ بعد العَشاء خُطواتٍ ولو مِائة خطوة ، ولا ينام عَقِبه ، فإنه مضر جداً ، وقال مسلموهم : أو يُصلِّى عقيبَه ليستقرَّ الغِذاء بقعرِ المَعِدَة ، فيسهلَ هضمه ، ويجودَ بذلك . ولم يكن من هَدْيه أن يشربَ على طعامه فيُفسده ، ولا سِيَّما إن كان الماء حاراً أو بارداً ، فإنه ردىءٌ جداً . قال الشاعر : فَإذَا مـا اجْتَنَبْتَ ذلـكَ حَقّاً ** لَمْ تَخَفْ ما حَيِيتَ فِىالْجَوْفِ داءَ ويُكره شرب الماء عقيبَ الرياضة ، والتعبِ ، وعقيبَ الجِمَاع ، وعقيبَ الطعامِ وقبله ، وعقيبَ أكل الفاكهة ، وإن كان الشربُ عقيبَ بعضِها أسهلَ مِن بعض ، وعقب الحمَّام ، وعند الانتباه من النوم ، فهذا كُلُّهُ منافٍ لحفظ الصحة ، ولا اعتبار بالعوائد ، فإنها طبائع ثوانٍ . وأما هَدْيه في الشراب ، فمن أكمل هَدْىٍ يحفظ به الصحة ، فإنه كان يشرب العسلَ الممزوجَ بالماء البارد ، وفى هذا مِن حفظ الصحة ما لا يَهتدى إلى معرفته إلا أفاضلُ الأطباء ، فإنَّ شُربه ولعقَه على الرِّيق يُذيب البلغم ، ويغسِلُ خَمْل المَعِدَة ، ويجلُو لزوجتها ، ويدفع عنها الفضلات ، ويُسخنها باعتدال ، ويفتحُ سددها ، ويفعل مثل ذلك بالكَبِد والكُلَى والمثَانة ، وهو أنفع للمَعِدَة من كل حلو دخلها ، وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصَّفراء لحدَّتِه وحِدَّة الصفراء ، فربما هيَّجها ، ودفعُ مضرَّته لهم بالخلِّ ، فيعودُ حينئذ لهم نافعاً جداً ، وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرِها ، ولا سِيَّما لمن لم يعتد هذه الأشربة ، ولا ألِفَها طبعُه ، فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمةَ العسل ، ولا قريباً منه ، والمحكَّمُ في ذلك العادة ، فإنها تهدم أُصولاً ، وتبنى أُصولاً وأما الشراب إذا جَمَعَ وصْفَىْ الحلاوة والبرودة ، فمن أنفع شىء للبدن ، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة ، وللأرواح والقُوى ، والكبد والقلب ، عشقٌ شديدٌ له ، واستمدادٌ منه ، وإذا كان فيه الوصفانِ ، حصَلتْ به التغذيةُ ، وتنفيذُ الطعام إلى الأعضاء ، وإيصاله إليها أتمَّ تنفيذ . والماء البارد رطب يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلَّل منها ، ويُرقِّقُ الغِذاء ويُنفِذه في العروق . واختلف الأطباء : هل يُغذِّى البدن ؟ على قولين : فأثبتت طائفةٌ التغذية به بناءً على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة في البدن به ، ولا سِيَّما عند شدة الحاجة إليه . قالوا : وبينَ الحيوانِ والنبات قدرٌ مشترك مِن وجوه عديدة منها : النموُّ والاغتذاءُ والاعتدال ، وفى النبات قوةُ حِسٍّ تُناسبه ، ولهذا كان غِذاءُ النبات بالماء ، فما يُنكر أن يكون للحيوان به نوعُ غذاء ، وأن يكون جزءاً من غذائه التام . قالوا : ونحن لا ننكر أنَّ قوة الغذاء ومعظمه في الطعام ، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية ألبتة . قالوا : وأيضاً الطعام إنما يُغذِّى بما فيه من المائية ، ولولاها لما حصلت به التغذيةُ .قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ، ولا ريب أنَّ ما كان أقربَ إلى مادة الشىء ، حصلت به التغذية ، فكيف إذا كانت مادته الأصلية ، قال الله تعالى : قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الرِّىُّ بالماء البارد ، تراجعت إليه قواه ونشاطُه وحركته ، وصبرَ عن الطعام ، وانتفع بالقدر اليسير منه ، ورأينا العطشانَ لا ينتفِعُ بالقدرِ الكثير مِن الطعام ، ولا يجد به القوة والاغتذاءَ ، ونحن لا ننكِرُ أنَّ الماءَ يُنفِذُ الغذاء إلى أجزاء البدن ، وإلى جميع الأعضاء ، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به ، وإنما ننكر على مَن سلب قوةَ التغذية عنه ألبتة ، ويكاد قولُه عندنا يدخُل في إنكار الأُمورالوجدانية . وأنكرت طائفةٌ أُخرى حصولَ التغذية به ، واحتجَّت بأُمور يرجعُ حاصِلُها إلى عدم الاكتفاء به ، وأنه لا يقومُ مقام الطعام ، وأنه لا يزيد في نموِّ الأعضاء ، ولا يخلف عليها بدل ما حلَّلتْه الحرارةُ ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية ، فإنهم يَجعلون تغذيته بحسب جوهره ، ولطافته ورقته ، وتغذيةُ كل شىء بحسبه ، وقد شُوهد الهواءُ الرَّطب البارد اللَّين اللَّذيذ يُغذِّى بحسبه ، والرائحة الطيبة تُغذِّى نوعاً من الغذاء ، فتغذية الماء أظهر وأظهر . والمقصودُ : أنه إذا كان بارداً ، وخالطه ما يُحليه كالعسل أو الزبيب ، أو التمر أو السكر ، كان من أنفع ما يدخل البدن ، وحفِظَ عليه صحته ، فلهذا كان أحبُّ الشرابِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم البارِدَ الحلوَ . والماءُ الفاتِرُ ينفخ ، ويفعل ضدَّ هذه الأشياء . ولما كان الماء البائت أنفعَ من الذي يُشرب وقتَ استقائه ، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان : (هَلْ من ماءٍ بات في شَـنَّة) ؟ فأتاه به، فشرب منه ، رواه البخارى ولفظُه : (إنْ كان عِنْدَكَ ماءٌ باتَ في شَنَّة وإلاَّ كَرَعْنَا) .والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذي شُرِب لوقته بمنزلة الفطير ، وأيضاً فإنَّ الأجزاء الترابية والأرضية تُفارقه إذا بات ، وقد ذُكِر أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كان يُسْتَعْذَبُ له الماء ، ويَختار البائت منه . وقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُستقى له الماء العذب مِن بئر السقيا . والماء الذي في القِرَب والشنان ، ألذُّ من الذي يكون من آنية الفَخَّار والأحجار وغيرهما ، ولا سِيَّما أسقيةَ الأدمَ ، ولهذا التَمسَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم ماءً بات في شَـنَّة دون غيرها من الأوانى ، وفى الماء إذا وُضع في الشِّنان ، وقِرب الأدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسامِّ المنفتحةِ التي يرشَح منها الماء ، ولهذا كان الماء في الفَخَّار الذي يرشح ألذُّ منه ، وأبردُ في الذي لا يرشَح ، فصلاةُ الله وسلامه على أكمل الخلق ، وأشرفهم نفساً ، وأفضلهم هَدْياً في كل شىء ، لقد دَلَّ أُمته على أفضل الأُمور وأنفعها لهم في القلوب والأبدان ، والدُّنيا والآخرة قالت عائشةُ : كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُلوَ البارِدَ . وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ العذبَ ، كمياه العيون والآبار الحلوة ، فإنه كان يُستعذَب له الماء . ويحتملُ أن يريد به الماءَ الممزوجَ بالعسل ، أو الذي نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبيبُ . وقد يُقال وهو الأظهر : يعمُّهما جميعاً وقولُه في الحديث الصحيح : (إن كان عندكَ ماء باتَ في شَنٍ وإلا كَرَعْنَا) ، فيه دليلٌ على جواز الكَرْع ، وهو الشرب بالفم من الحوضِ والمِقْراةِ ونحوها ، وهذه والله أعلم واقعةُ عَيْن دعت الحاجةُ فيها إلى الكَرْع بالفم ، أو قاله مبيِّناً لجوازه ، فإنَّ مِن الناس مَنْ يكرهُه ، والأطباءُ تكادُ تُحَرِّمُه ، ويقولون : إنه يَُضرُّ بالمَعِدَة ، وقد رُوى في حديث لا أدرى ما حالُه عن ابن عمر ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم نهانا أنْ نشرب على بطوننا ، وهو الكَرْعُ ، ونهانا أنْ نغترِفَ باليد الواحدة وقال : ( لا يَلَغْ أحدُكُم كَمَا يَلَغُ الكلبُ ، ولا يَشْرَبْ باللَّيْلِ مِن إنَاءٍ حَتَّى يَختبِرَه إلا أنْ يكونَ مُخَمَّراً ) وحديثُ البخارى أصحُّ من هذا ، وإن صحَّ ، فلا تعارُضَ بينهما ، إذ لعلَّ الشربَ باليد لم يكن يمكن حينئذٍ ، فقال : (وإلا كَرَعْنا) ، والشربُ بالفم إنما يضرُّ إذا انكبَّ الشارِبُ على وجهه وبطنه ، كالذى يشربُ من النهر والغدِير ، فأمَّا إذا شرب مُنتصِباً بفمه من حوض مرتفع ونحوِه ، فلا فَرْقَ بين أن يشرب بيده أو بفمه . وكان من هَدِْيه الشُّربُ قاعداً ، هذا كان هديَه المعتادَ وصحَّ عنه أنه نهى عن الشُّرب قائماً ، وصحَّ عنه أنه أمر الذي شرب قائماً أن يَسْتَقىءَ ، وصَحَّ عنه أنه شرب قائماً . فقالت طائفةٌ : هذا ناسخٌ للنهى ، وقالت طائفةٌ : بل مبيِّنٌ أنَّ النهىَ ليس للتحريم ، بل للإرشاد وتركِ الأوْلى ، وقالت طائفةٌ : لا تعارُضَ بينهما أصلاً ، فإنه إنما شَرِبَ قائماً للحاجة ، فإنه جاء إلى زمزمَ ، وهم يَستَقُون منها ، فاستَقَى فناولُوه الدَّلوَ ، فشرب وهو قائم ، وهذ كان موضعَ حاجة . وللشرب قائماً آفاتٌ عديدة منها : أنه لا يحصل به الرِّىُّ التام ، ولا يستَقِرُّ في المَعِدَة حتى يَقْسِمَه الكبدُ على الأعضاء ، وينزلُ بسرعة وَحِدَّة إلى المَعِدَة ، فيُخشى منه أن يُبردَ حرارتَها ، ويُشوشها ، ويُسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج ، وكلُّ هذا يَضُرُّ بالشارب ، وأمَّا إذا فعله نادراً أو لحاجة ، لم يَضره ، ولا يُعترض بالعوائد على هذا ، فإنَّ العوائد طبائعُ ثوانٍ ، ولها أحكامٌ أُخرى ، وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء . وفى (صحيح مسلم) من حديث أنس بن مالك ، قال : كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتنفَّسُ في الشَّراب ثلاثاً ، ويقولُ : (إنه أرْوَى وأمْرَأُ وأبْرَأُ) .الشراب في لسان الشارع وحمَلَةِ الشرع : هو الماء ، ومعنى تنفُّسِه في الشراب : إبانتُه القَدَح عن فيه ، وتنفُّسُه خارجَه ، ثم يعود إلى الشراب ، كما جاء مصرَّحاً به في الحديث الآخر : (إذا شَرِبَ أحَدُكُم فَلا يَتنفَّسْ في القَدَحِ ، ولكنْ لِيُبِنِ الإناءَ عن فيهِ) وفى هذا الشرب حِكمٌ جَمَّة ، وفوائدٌ مهمة ، وقد نبَّه صلى الله عليه وسلم على مَجامِعها ، بقوله : (إنه أروَى وأمرَأ وأبرأ) فأروَى : أشدُّ ريَّاً ، وأبلغُه وأنفعُه ، وأبرأُ : أفعلُ من البُرء ، وهو الشِّفاء ، أى يُبرىء من شدة العطش ودائه لتردُّدِه على المَعِدَة الملتهبة دفعاتٍ ، فتُسَكِّن الدفعةُ الثانية ما عجزت الأُولى عن تسكينه ، والثالثةُ ما عجزت الثانية عنه ، وأيضاً فإنه أسلمُ لحرارة المَعِدَة ، وأبقَى عليها من أن يَهجُم عليها الباردُ وَهْلةً واحدة ، ونَهْلةً واحدة .وأيضاً فإنه لا يُروِى لمصادفته لحرارة العطش لحظةً ، ثم يُقلع عنها ، ولما تُكسَرْ سَوْرتُها وحِدَّتُها ، وإن انكسرتْ لم تبطل بالكلية بخلاف كسرِها على التمهُّل والتدريج . وأيضاً فإنه أسلمُ عاقبةً ، وآمنُ غائلةً مِن تناوُل جميع ما يُروِى دفعةً واحدة ، فإنه يُخاف منه أن يُطفىء الحرارة الغريزية بشدة برده ، وكثرةِ كميته ، أو يُضعفَها فيؤدِّى ذلك إلى فساد مزاج المَعِدَة والكَبِد ، وإلى أمراض رديئة ، خصوصاً في سكان البلاد الحارة ، كالحجاز واليمن ونحوهما ، أو في الأزمنة الحارة كشدة الصيف ، فإن الشرب وَهْلَةً واحدةً مَخُوفٌ عليهم جداً ، فإنَّ الحار الغريزى ضعيف في بواطن أهلها ، وفى تلك الأزمنة الحارة . وقوله : (وأمْرَأُ) : هو أفعلُ مِن مَرِئ الطعامُ والشرابُ في بدنه : إذا دخله ، وخالطه بسهولة ولذة ونفع . ومنه : ومن آفات الشرب نَهْلَةً واحدة أنه يُخاف منه الشَّرَق بأن ينسدَّ مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه ، فيغَصَّ به ، فإذا تنفَّس رُويداً ، ثم شرب ، أمِنَ من ذلك . ومن فوائده : أنَّ الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخارُ الدخانىُّ الحارُّ الذي كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه ، فأخرجَتْه الطبيعةُ عنها ، فإذا شرِب مرةً واحدةً ، اتفق نزولُ الماء البارد ، وصعودُ البخار ، فيتدافعان ويتعالجان ، ومن ذلك يحدُث الشَرقُ والغصَّة ، ولا يهْنأ الشاربُ بالماء ، ولا يُمرئُه ، ولا يتم رِيُّه . وقد روى عبد الله بن المبارك ، والبَيْهَقىُّ ، وغيرُهما عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم : (إذا شَرِبَ أحدُكُم فَلْيَمَُصَّ الماءَ مَصَّاً ، ولا يَعُبَّ عبَّا ، فإنَّه مِن الكُبَادِ) .والكُبَاد بضم الكاف وتخفيف الباء هو وجع الكبد ، وقد عُلم بالتجرِبة أنَّ ورود الماء جملةً واحدة على الكبد يؤلمها ويُضعفُ حرارتَها ، وسببُ ذلك المضادةُ التي بين حرارتها ، وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته . ولو ورد بالتدريج شيئاً فشيئاً ، لم يضاد حرارتَها ، ولم يُضعفْها ، وهذا مثالُه صَبُّ الماء البارد على القِدْر وهى تفور ، لا يضرُّها صَبُّه قليلاً قليلاً . وقد روى الترمذىُّ في (جامعه) عنه صلى الله عليه وسلم : (لا تَشْرَبُوا نَفَساً واحداً كَشُرْبِ البَعيرِ ، ولكن اشرَبُوا مَثْنَى وثُلاثَ ، وسمُّوا إذا أنتم شَرِْبُتم واحْمَدُّوا إذَا أنتُمْ فَرَغْتُمْ) . وللتسمية في أول الطعام والشراب ، وحمد الله في آخره تأثيرٌ عجيب في نفعه واستمرائه ، ودفع مَضَرَّته . قال الإمام أحمد : إذا جمع الطعام أربعاً ، فقد كَمُل : إذا ذُكِرَ اسمُ الله في أوله ، وحُمِدَ اللهُ في آخره ، وكثرتْ عليه الأيدى ، وكان من حِلٍّ . وقد روى مسلم في (صحيحه) من حديث جابر بن عبد الله ، قال : سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : (غطُّوا الإناءَ ، وأَوْكُوا السِّقاءَ ، فإنَّ في السَّنَةِ لَيْلَةً ينزِلُ فِيهَا وِباءٌ لا يَمُرُّ بإناءٍ ليس عليه غِطَاءٌ ، أو سِقاءٍ ليس عليه وِكاءٌ إلا وَقَعَ فيه من ذلك الدَّاء) . وهذا مما لا تنالُه علوم الأطباء ومعارفُهم ، وقد عرفه مَن عرفه من عقلاء الناس بالتجربة . قال اللَّيث بن سعد أحدُ رواة الحديث : الأعاجمُ عندنا يتَّقون تلك الليلة في السنة ، في كانُونَ الأول منها . وصَحَّ عنه أنه أمرَ بتخمير الإناء ولو أن يَعرِضَ عليه عُوداً . وفى عرض العود عليه من الحكمة ، أنه لا ينسى تخميرَه ، بل يعتادُه حتى بالعود ، وفيه : أنه ربما أراد الدُّبَيِّب أن يسقط فيه ، فيمرُّ على العود ، فيكون العودُ جسراً له يمنعه من السقوط فيه. وصَحَّ عنه أنه أمرَ عند إيكاءِ الإناء بذكر اسم الله ، فإنَّ ذِكْر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشيطان ، وإيكاؤُه يطرد عنه الهَوامَّ ، ولذلك أمر بذكر اسم الله في هذين الموضعين لهذين المعنيين . وروى البخارى في (صحيحه) من حديث ابن عباس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشُّرب مِنْ في السِّقاء . وفى هذا آدابٌ عديدة ، منها : أنَّ تردُّدَ أنفاس الشارب فيه يُكسبه زُهومة ورائحة كريهة يُعاف لأجلها . ومنها : أنه ربما غلب الداخِلُ إلى جوفه من الماء ، فتضرَّر به . ومنها : أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به،فيؤذيه . ومنها : أنَّ الماء ربما كان فيه قَذاةٌ أو غيرُها لا يراها عند الشرب ، فتَلِج جوفه . ومنها : أنَّ الشرب كذلك يملأ البطن من الهواء ، فيضيقُ عن أخذ حظَّه من الماء ، أو يُزاحمه ، أو يؤذيه ، ولغير ذلك من الحِكَم. فإن قيل : فما تصنعون بما في (جامع الترمذي) : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعا بإداوة يومَ أُحُد ، فقال : (اخْنُثْ فَمَ الإدَاوَة) ، ثُمَّ شَرِبَ منها مِن فَيّهَا .قلنا : نكتفى فيه بقول الترمذى : هذا حديثٌ ليس إسناده بصحيح ، وعبد الله ابن عمر العُمرىُّ يُضعَّفُ من قِبلِ حفظه ، ولا أدرى سمع من عيسى ، أو لا ... انتهى . يريد عيسى بن عبد الله الذي رواه عنه ، عن رجل من الأنصار . وفى (سنن أبى داود) من حديث أبى سعيد الخُدرىِّ ، قال : (نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الشُّرب من ثُلْمَةِ القَدَحِ ، وأن ينفُخَ في الشَّراب) . وهذا من الآداب التي تتم بها مصلحةُ الشارب ، فإن الشُّرب من ثُلْمِة القَدَح فيه عِدَّةُ مفاسد : أحدها : أنَّ ما يكون على وجه الماء من قَذىً أو غيره يجتمع إلى الثُّلْمة بخلاف الجانب الصحيح . الثانى : أنَّه ربما شوَّش على الشارب ، ولم يتمكن من حسن الشرب من الثُّلْمة . الثالث : أنَّ الوسخ والزُّهومة تجتمِعُ في الثُّلْمة ، ولا يصل إليها الغَسلُ ، كما يصل إلى الجانب الصحيح . الرابع : أنَّ الثُّلْمة محلُّ العيب في القَدَح ، وهى أردأُ مكان فيه ، فينبغى تجنُّبه ، وقصدُ الجانب الصحيح ، فإنَّ الردىء من كل شىء لا خير فيه ، ورأى بعض السَّلَف رجلاً يشترى حاجة رديئة ، فقال : لا تفعل ، أما عَلِمتَ أنَّ اللهَ نزع البركة من كل ردىء . الخامس : أنَّه ربما كان في الثُّلْمة شقٌ أو تحديدٌ يجرح فم الشارب ، ولغيرِ هذه من المفاسد . وأما النفخ في الشراب .. فإنه يُكسِبُه من فم النافخ رائحةٌ كريهةٌ يُعاف لأجلها ، ولا سِيَّما إن كان متغيِّرَ الفم . وبالجملة : فأنفاس النافخ تُخالطه ، ولهذا جمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين النهى عن التنفُّس في الإناء والنفخ فيه ، في الحديث الذي رواه الترمذىُّ وصحَّحه ، عن ابن عباس رضى الله عنهما ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتنفَّسَ في الإناء ، أو يُنْفَخَ فيه . فإن قيل : فما تصنعون بما في (الصحيحين) من حديث أنس ، (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفَّسُ في الإناء ثلاثاً) ؟ . قيل : نُقابلُه بالقبول والتسليم ، ولا مُعارضة بينه وبين الأول ، فإن معناه أنه كان يتنفس في شربه ثلاثاً ، وَذَكَرَ الإناءَ لأنه آلة الشرب ، وهذا كما جاء في الحديث الصحيح : أنَّ إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات في الثَّدْى ، أى : في مُدة الرَّضاع . وكان صلى الله عليه وسلم يشرب اللَّبن خالصاً تارةً ، ومُشَوباً بالماء أُخرى . وفى شرب اللَّبن الحلو في تلك البلاد الحارة خالصاً ومَشوباً نفعٌ عظيم في حفظ الصحة ، وترطيبِ البدن ، ورَىِّ الكبد ، ولا سِيَّما اللبنَ الذي ترعى دوابُّه الشيحَ والقَيْصومَ والخُزَامَى وما أشبهها ، فإن لبنها غذاءٌ مع الأغذية ، وشرابٌ مع الأشربة ، ودواءٌ مع الأدوية . وفى جامع (الترمذى) عنه صلى الله عليه وسلم : (إذا أكل أحدكم طعاماً فيلقُلْ : اللَّهُمَّ بارِكْ لنا فيه ، وأطْعِمنا خيراً منه ، وإذا سُقى لبناً فليقل : اللَّهُمَّ بارِكْ لنا فيه ، وزِدْنا منه ، فإنه ليس شىءٌ يُجْزِئُ منَ الطعام والشرابِ إلاَّ اللبنُ) . قال الترمذى : هذا حديث حسن . وثبت في (صحيح مسلم) أنه صلى الله عليه وسلم كان يُنْبَذُ له أوَّل الليل ، ويشربُه إذا أصبح يومَه ذلك ، والليلةَ التي تجىءُ ، والغَد ، واللَّيلةَ الأُخرى ، والغَد إلى العصر ، فإن بقى منه شىءٌ سقاه الخادِمَ ، أو أمر به فَصُبَّ . وهذا النبيذ : هو ما يُطرح فيه تمرٌ يُحليه ، وهو يدخل في الغذاء والشراب ، وله نفع عظيم في زيادة القوة ، وحفظِ الصحة ، ولم يكن يشربه بعدَ ثلاث خوفاً من تغيُّره إلى الإسكار . وكان من أتم الهَدْى ، وأنفعه للبدن ، وأخفِّه عليه ، وأيسره لُبساً وخَلعاً ، وكان أكثر لُبسه الأردية والأُزُر ، وهى أخفُّ على البدن من غيرها ، وكان يلبسُ القميص ، بل كان أحبَّ الثياب إليه . وكان هَديُه في لُبسه لما يلبَسُه أنفَعُ شىء للبدن ، فإنه لم يكن يُطيل أكمامه ، ويُوسِعُها ، بل كانت كُمُّ قميصه إلى الرُّسْغ لا يُجاوز اليد ، فتشق على لابسها ، وتمنعُه خِفَّة الحركة والبطش ، ولا تقصُرُ عن هذه ، فتبرز للحر والبرد . وكان ذيلُ قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين ، فيؤذىَ الماشى ويَؤُوده ، ويجعله كالمقيَّد ، ولم يقصُرْ عن عَضلة ساقيه ، فتنكشفَ ويتأذَّى بالحر والبرد . ولم تكن عِمامته بالكبيرة التي يؤذى الرأس حملُها ، ويضعفُه ويجعله عُرْضةً للضعف والآفات ، كما يُشَاهَد من حال أصحابها ، ولا بالصغيرة التي تقصرُ عن وقاية الرأس من الحر والبرد ؛ بل وَسَطاً بين ذلك ، وكان يُدخلها تحت حَنكه ، وفى ذلك فوائدُ عديدة : فإنها تقى العنق الحر والبرد ، وهو أثبت لها ، ولا سِيَّما عِند ركوب الخيل والإبل ، والكرِّ والفرِّ ، وكثير من الناس اتخذ الكلاَليب عوضاً عن الحنك ، ويا بُعدَ ما بينهما في النفع والزينة ، وأنت إذا تأملت هذه اللُّبسة وجدتها من أنفع اللُّبسات وأبلغِها في حفظ صحة البدن وقوته ، وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن . وكان يلبسُ الخِفاف في السفر دائماً ، أو أغلب أحواله لِحاجة الرِّجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد ، وفى الحَضَر أحياناً . وكان أحبُّ ألوان الثياب إليه البياضَ ، والحِبَرَة ، وهى : البرود المحبَّرة . ولم يكن مِن هَدْيه لُبس الأحمر ، ولا الأسود ، ولا المصبَّغ ، ولا المصقول وأما الحُلَّة الحمراء التي لبسها ، فهى الرداءُ اليمانىُّ الذي فيه سوادٌ وحُمرة وبياض ، كالحُلَّةِ الخضراء ، فقد لبس هذه وهذه ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، وتغليطُ مَن زعم أنه لبس الأحمر القانى بما فيه كفاية . لـمَّا علم صلى الله عليه وسلم أنه على ظهرِ سيرٍ ، وأن الدنيا مرحلةُ مسافرٍ ينزلُ فيها مُدَّة عمره ، ثم ينتقلُ عنها إلى الآخرة ، لم يكن من هَديه وهَدى أصحابه ومن تبعه الاعتناءُ بالمساكن وتشييدها ، وتعليتها وزَخرفتها وتوسِيعها ، بل كانت من أحسن منازل المسافر تقى الحر والبرد ، وتسترُ عن العيون ، وتمنعُ من ولوج الدوابِّ ، ولا يُخاف سقوطُها لفرطِ ثقلها ، ولا تُعشش فيها الهوام لِسعتها ولا تعتَوِرُ عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها ، وليست تحت الأرض فتؤذىَ ساكنها ، ولا في غاية الارتفاع عليها ، بل وسط ، وتلك أعدلُ المساكن وأنفعُها ، وأقلُّها حراً وبرداً ، ولا تضيقُ عن ساكنها ، فينحصِر ، ولا تفضل عنه بغير منفعة ولا فائدة ، فتأوَى الهوامُّ في خلوها ، ولم يكن فيها كُنُفٌ تُؤذى ساكنها برائحتها ، بل رائحتها من أطيب الروائح لأنه كان يُحبُّ الطيب ، ولا يزال عنده ، وريحه هو من أطيب الرائحة ، وعَرَقُه من أطيب الطيب ، ولم يكن في الدار كَنِيفٌ تظهر رائحتُه ، ولا ريبَ أنَّ هذه من أعدل المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن ، وحفظِ صحته . مَن تدبَّر نومه ويقظَته صلى الله عليه وسلم وجدَه أعدلَ نوم ، وأنفعَه للبدن والأعضاء والقُوى ، فإنه كان ينام أوَّلَ الليل ، ويستيقظ في أول النصف الثانى ، فيقومُ ويَستاك ، ويتوضأ ويُصَلِّى ما كتبَ اللهُ له ، فيأخذُ البدن والأعضاء والقُوَى حظَّها من النوم والراحة ، وحظَّها من الرياضة مع وُفورِ الأجر ، وهذا غايةُ صلاح القلب والبدن ، والدنيا والآخرة . ولم يكن يأخذ من النوم فوقَ القدر المحتاج إليه ، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه ، وكان يفعلُه على أكمل الوجوه ، فينامُ إذا دعتْه الحاجةُ إلى النوم على شِقِّه الأيمن ، ذاكراً الله حتى تغلبه عيناه ، غيرَ ممتلئ البدنِ من الطعام والشراب ، ولا مباشرٍ بجنبه الأرضَ ، ولا متخذٍ للفُرش المرتفعة ، بل له ضِجَاع من أُدم حشوهُ ليف ، وكان يَضطجع على الوِسادة ، ويضع يده تحت خدِّه أحياناً . ونحن نذكر فصلاً في النوم ، والنافع منه والضار فنقول : النوم حالة للبدن يَتبعُها غوْر الحرارةِ الغريزية والقُوى إلى باطن البدن لطلب الراحة ، وهو نوعان : طبيعى ، وغيرُ طبيعى . فالطبيعى : إمساك القُوى النفسانية عن أفعالها ، وهى قُوَى الحِسِّ والحركة الإرادية ، ومتى أمسكتْ هذه القُوَى عن تحريك البدن اسْتَرخى ، واجتمعتْ الرطوباتُ والأبخرةُ التي كانت تتحلَّل وتتفرَّق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي هو مبدأ هذه القُوَى ، فيتخدَّرُ ويَسترخِى ، وذلك النومُ الطبيعى . وأمَّا النومُ غيرُ الطبيعى ، فيكونُ لعَرض أو مرض ، وذلك بأن تستولىَ الرطوباتُ على الدماغ استيلاءً لا تقدِرُ اليقظةُ على تفريقها ، أو تصعد أبخرةٌ رَطبة كثيرة كما يكون عقيبَ الامتلاء مِن الطعام والشراب ، فتُثقِلُ الدماغ وتُرخيه ، فَيتخدَّرَ ، ويقع إمساكُ القُوَى النفسانية عن أفعالها ، فيكون النوم . وللنوم فائدتان جليلتان ، إحداهما : سكونُ الجوارح وراحتُها مما يَعرض لها من التعب ، فيُريح الحواسَّ مِن نَصَب اليقظة ، ويُزيل الإعياء والكَلال . والثانية : هضم الغذاء ، ونُضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية في وقت النوم تَغور إلى باطن البدن ، فتُعين على ذلك ، ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دِثَار . وأنفعُ النوم : أن ينامَ على الشِّق الأيمن ، ليستقرَّ الطعام بهذه الهيئة في المَعِدَة استقراراً حسناً ، فإن المَعِدَة أميَلُ إلى الجانب الأيسر قليلاً ، ثم يَتحوَّل إلى الشِّق الأيسر قليلاً ليُسرعَ الهضم بذلك لاستمالة المَعِدَة على الكَبِد ، ثم يَستقرُّ نومُه على الجانب الأيمن ، ليكون الغِذاء أسرعَ انحداراً عن المَعِدَة ، فيكونُ النوم على الجانب الأيمن بُداءة نومه ونهايتَه ، وكثرةُ النوم على الجانب الأيسر مضرٌ بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه ، فتنصبُّ إليه المواد . وأردأُ النومِ النومُ على الظهر ، ولا يَضرُّ الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم ، وأردأُ منه أن ينامَ منبطحاً على وجهه ، وفى (المسند) و(سنن ابن ماجه) ، عن أبى أُمامةَ قال : مرَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم على رجُلٍ نائم في المسجد منبطح على وجهه ، فضرَبه برجله ، وقال : (قُمْ أوِ اقْعُدْ فإنَّهَا نومةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ) . قال (أبقراطٌ) في كتاب (التَّقدِمة) : وأما نومُ المريض على بطنه من غير أن يكون عادتُه في صحته جرتْ بذلك ، فذلك يدلُّ على اختلاط عقل ، وعلى ألمٍ في نواحى البطن ، قال الشُرَّاح لكتابه : لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن . والنومُ المعتدل ممكِّنٌ للقُوَى الطبيعية من أفعالها ، مريحٌ للقوة النفسانية ، مُكْثرٌ من جوهر حاملها ، حتى إنه ربَّما عاد بإرخائه مانعاً من تحلُّل الأرواح . ونومُ النهار ردئٌ يُورث الأمراضَ الرطوبية والنوازلَ ، ويُفسد اللَّون ، ويُورث الطِّحال ، ويُرخى العصبَ ، ويُكسل ، ويُضعف الشهوة ، إلاَّ في الصَّيفِ وقتَ الهاجِرة ، وأردؤه نومُ أول النهار ، وأردأُ منه النومُ آخره بعدَ العصر ، ورأى عبد الله بن عباس ابناً له نائماً نومة الصُّبْحَةِ ، فقال له : قم ، أتنام في الساعة التي تُقسَّمُ فيها الأرزاق ؟ وقيل : نوم النهار ثلاثة : خُلقٌ ، وحُرق ، وحُمق . فالخُلق : نومة الهاجرة ، وهى خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحُرق : نومة الضحى ، تُشغل عن أمر الدنيا والآخرة . والحُمق : نومة العصر . قال بعض السَّلَف : مَن نام بعد العصر ، فاختُلِسَ عَقلُه ، فلا يلومنَّ إلا نفسه . وقال الشاعر : ونوم الصُّبحة يمنع الرزق ، لأن ذلك وقتٌ تطلبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها ، وهو وقتُ قسمة الأرزاق ، فنومُه حرمانٌ إلا لعارض أو ضرورة ، وهو مضر جداً بالبدن لإرخائه البدن ، وإفسادِه للفضلات التي ينبغى تحليلُها بالرياضة ، فيُحدث تكسُّراً وَعِيّاً وضَعفاً . وإن كان قبل التبرُّز والحركة والرياضة وإشغالِ المَعِدَة بشىء ، فذلك الداء العُضال المولِّد لأنواع من الأدواء . والنومُ في الشمس يُثير الداءَ الدَّفين ، ونومُ الإنسان بعضُه في الشمس ، وبعضُه في الظل ردىء ، وقد روى أبو داود في (سننه) من حديث أبى هريرة ، قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (إذا كان أحدكم في الشَّمْسِ فَقَلَصَ عنه الظِّلُّ ، فصار بَعْضُهُ في الشَّمْسِ وبَعْضُهُ في الظِّل ، فَلْيَقُمْ) . وفى (سنن ابن ماجه) وغيره من حديث بُريدَةَ بن الحُصَيب ، (أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى أنْ يقعُدَ الرَّجُلُ بين الظِّلِّ والشمس)، وهذا تنبيه على منع النوم بينهما . وفى (الصحيحين) عن البَرَاء بن عازِبٍ ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إذا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فتوضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاة ، ثم اضطَّجِعْ على شِقِّكَ الأيمنِ ، ثم قل : اللَّهُمَّ إنِّى أسْلمتُ نَفْسِى إليكَ ، ووَجَّهْتُ وجْهىِ إليكَ ، وفَوَّضْتُ أمرى إليكَ ، وألجأْتُ ظَهْرى إليكَ ، رَغبةً ورَهبةً إليكَ ، لا ملجأَ ولا مَنْجا منك إلاَّ إليكَ ، آمَنتُ بكتابِكَ الذي أنْزَلْتَ ، ونبيِّكَ الذي أرْسلتَ . واجعلْهُنَّ آخر كلامِكَ ، فإن مِتَّ مِن ليلتِك ، مِتَّ على الفِطْرة) . وفى (صحيح البخارى) عن عائشة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، (كان إذا صلَّى ركعتى الفجرِ يعنى سُـنَّتَها اضْطَّجَعَ على شِقِّه الأيمنِ) . وقد قيل : إنَّ الحكمة في النوم على الجانب الأيمـن ، أن لا يستغرقَ النائم في نومه ، لأن القلب فيه ميلٌ إلى جهة اليسار ، فإذا نام على جنبه الأيمن ، طلب القلبُ مُستقَرَّه من الجانب الأيسر ، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه ، بخلاف قراره في النوم على اليسار ، فإنه مُستقَرُّه ، فيحصُل بذلك الدَّعةُ التامة ، فيستغرق الإنسان في نومه ، ويَستثقِل ، فيفوتُه مصالح دينه ودنياه . ولما كان النائمُ بمنزلة الميت ، والنومُ أخو الموت ولهذا يستحيل على الحىِّ الذي لا يموت ، وأهلُ الجنَّة لا ينامون فيها كان النائم محتاجاً إلى مَن يحرُس نفسه ، ويحفظُها مما يَعْرِضُ لها من الآفات ، ويحرُسُ بدنه أيضاً من طوارق الآفات ، وكان ربُّه وفاطرُه تعالى هو المتولى لذلك وحدَه . علَّم النبىُّ صلى الله عليه وسلم النائمَ أن يقولَ كلماتِ التفويضِ والالتجاء ، والرغبة والرهبة ، ليَستدعىَ بها كمال حفظِ الله له ، وحراسته لنفسه وبدنه ، وأرشده مع ذلك إلى أن يَستذكِرَ الإيمانَ ، وينامَ عليه ، ويجعلَ التكلُّمَ به آخرَ كلامه ، فإنه ربما توفاه الله في منامه ، فإذا كان الإيمانُ آخِرَ كلامه دخل الجنَّة ، فتضمَّن هذا الهَدْىُ في المنام مصالحَ القلب والبدن والروح في النوم واليقظة ، والدنيا والآخرة ، فصلواتُ الله وسلامُه على مَن نالتْ به أُمتُه كُلَّ خير وقوله : (أسلَمتُ نفْسى إليكَ) ؛ أى : جعلتُها مُسلَّمَةً لك تسليمَ العبدِ المملوك نفسَه إلى سيده ومالكه . وتوجيهُ وجهه إليه : يتضمَّن إقبالَه بالكلِّية على ربه ، وإخلاص القصد والإرادة له ، وإقراره بالخضوع والذل والانقياد ، قال تعالى : أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ وتفويض الأمر إليه : ردُّهُ إلى الله سبحانه وذلك يُوجب سُكون القلب وطمأنينتَه والرِّضى بما يقضيه ويختارُه له مما يحبه ويرضاه والتفويضُ من أشرف مقامات العبودية ولا عِلَّة فيه وهو من مقامات الخاصة خلافاً لزاعمى خلاف ذلك . وإلجاءُ الظَّهر إليه سبحانه : يَتضَمَّنُ قوةَ الاعتماد عليه والثقة به والسكونَ إليه والتوكلَ عليه فإنَّ مَن أسند ظهره إلى ركن وثيقٍ لم يخف السقوطَ . ولـمَّا كان للقلب قوَّتان : قوة الطلب وهى الرغبة وقوة الهرب وهى الرهبة وكان العبد طالباً لمصالحه هارباً من مضارِّه جمع الأمرين في هذا التفويض والتوجُّه فقال : (رغبةً ورهبةً إليك) . ثم أثنى على ربه بأنه لا مَلجأ للعبد سواه ولا منجا له منه غيره فهو الذي يلجأ إليه العبدُ ليُنجِيَه من نفسه كما في الحديث الآخر : (أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ وبمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ وأعوذُ بِكَ مِنْكَ) فهو سبحانه الذي يُعيذ عبدَه ويُنجيه من بأسه الذي هو بمشيئته وقُدرته فمنه البلاءُ ومنه الإعانةُ ومنه ما يُطلب النجاةُ منه وإليه الالتجاءُ في النجاة فهو الذي يُلجأ إليه في أن يُنجىَ مما منه ويُستعاذُ به مما منه فهو ربُّ كل شىء ولا يكون شىء إلا بمشيئته : ثُمَّ ختم الدعاءَ بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذي هو مَلاكُ النجاة ، والفوز في الدنيا والآخرة ، فهذا هَدْيُه في نومه . لَوْ لَمْ يَقُلْ إنِّى رَسُولٌ لَكَا نَ شَاهِدٌ في هَدْيِهِ يَنْطِقُ وأمَّا هَدْيُه في يقظته ، فكان يَستيقظ إذا صاح الصَّارخُ وهو الدِّيك ، فيحمَدُ اللهَ تعالى ويُكبِّره ، ويُهلِّله ويدعوه ، ثم يَستاك ، ثم يقوم إلى وضُوئه ، ثم يَقِفُ للصلاة بين يَدَى ربه ، مُناجياً له بكلامه ، مُثنياً عليه ، راجياً له ، راغباً راهباً ، فأىُّ حفظٍ لصحةِ القلب والبدن ، والرُّوح والقُوَى ، ولنعيم الدنيا والآخرة فوقَ هذا . وأمَّا تدبيرُ الحركة والسكون ، وهو الرياضة ، فنذكرُ منها فصلاً يُعلم منه مطابقةُ هَدْيِه في ذلك لأكملِ أنواعِه وأحمدِها وأصوبِها ، فنقول : من المعلوم افتقارُ البدن في بقائه إلى الغذاء والشراب ، ولا يَصير الغذاءُ بجملته جزءاًمن البدن ، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما ، إذا كثُرتْ على ممر الزمان اجتمع منها شىء له كميةٌ وكيفية ، فيضُرُّ بكميته بأن يسد ويُثقلَ البدن ، ويُوجبَ أمراضَ الاحتباس ، وإن استفرغ تأذَّى البدن بالأدوية ، لأن أكثرها سُمِيَّة ، ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفَع به ، ويضر بكيفيته ، بأن يسخن بنفسه ، أو بالعَفِن ، أو يبردُ بنفسه ، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه . وسدد الفضلات لا محالةَ ضارةٌ ، تُرِكَتْ أو استُفرِغَتْ ، والحركةُ أقوى الأسباب في منع تولُّدِها ، فإنها تُسخِّن الأعضاء ، وتُسيل فضلاتِها ، فلا تجتمعُ على طول الزمان ، وتُعوِّدُ البدنَ الخفةَ والنشاط ، وتجعلُه قابلاً للغذاء ، وتُصلِّب المفاصِل ، وتُقوِّى الأوتارَ والرباطاتِ ، وتُؤمن جميعَ الأمراض المادية وأكثر الأمراض المِزاجية إذا استُعمِلَ القدرُ المعتدل منها في وقته ، وكان باقى التدبير صواباً . ووقتُ الرياضة بعدَ انحدار الغذاء ، وكمال الهضم ، والرياضةُ المعتدلة هي التي تحمرُّ فيها البَشْرة ، وتربُو ويَتَنَدَّى بها البدنُ ، وأما التي يلزمُها سيلانُ العرق فمفرِطةٌ ، وأىُّ عضو كثرتْ رياضتُه قَوِىَ ، وخصوصاً على نوع تلك الرياضة ، بل كلُّ قوة فهذا شأنُها ، فإنَّ مَن استكثَر من الحفظ قويتْ حافِظتُه ، ومَن استكثرَ من الفكر قويتْ قُوَّتُه المفكِّرة ، ولكل عضو رياضةٌ تخصُّه ، فللصدرِ القراءةُ ، فليبتدئ فيها من الخِفية إلى الجهر بتدريج ، ورياضةُ السمع بسمعِ الأصوات ، والكلام بالتدريج ، فينتقل من الأخف إلى الأثقل ، وكذلك رياضةُ اللِّسان في الكلام ، وكذلك رياضةُ البصر ، وكذلك رياضةُ المشى بالتدريج شيئاً فشيئاً . وأمَّا ركوبُ الخيل ، ورمىُ النُّشَّاب ، والصراعُ ، والمسابقةُ على الأقدام ، فرياضةٌ للبدن كلِّه ، وهى قالعة لأمراض مُزمنةٍ ، كالجُذام والاستسقاء والقولنج . ورياضةُ النفوس بالتعلُّم والتأدُّب ، والفرح والسرور ، والصبر والثبات ، والإقدام والسماحة ، وفِعْل الخير ، ونحو ذلك مما تَرْتاض به النفوسُ ، ومن أعظم رياضتها : الصبرُ والحب ، والشجاعة والإحسان ، فلا تزالُ تَرتاض بذلك شيئاً فشيئاً حتى تَصيرَ لها هذه الصفاتُ هيآتٍ راسخةً ، ومَلَكاتٍ ثابتةً . وأنت إذا تأمَّلت هَدْيه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وجدتَه أكملَ هَدْىٍ حافظٍ للصحة والقُوَى ، ونافعٍ في المعاش والمعاد . ولا رَيْبَ أنَّ الصلاة نفسَها فيها من حِفظِ صحة البدن ، وإذابةِ أخلاطه وفضلاته ، ما هو من أنفع شىء له سوى ما فيها مِن حفظِ صحة الإيمان ، وسعادةِ الدنيا والآخرة ، وكذلك قيامُ الليل مِن أنفع أسباب حفظ الصحة ، ومن أمنع الأُمور لكثير من الأمراض المزمنة ، ومن أنشط شىء للبدن والروح والقلب ، كما في (الصحيحين) عن النبى صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : (يَعقِدُ الشَّيْطَانُ على قافِيَةِ رأسِ أحَدِكُم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقَدٍ ، يَضربُ على كُلِّ عُقْدَةٍ : عَلَيْكَ لَيْلٌ طويلٌ ، فارقُدْ ، فإنْ هو استيقَظ ، فذكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقْدَةٌ ، فإنْ تَوَضَّأَ ، انحلَّتْ عُقْدَةٌ ثانيةٌ ، فإنْ صَلَّى انحلَّتْ عُقْدُهُ كُلُّهَا ، فأصبحَ نشيطاً طَـيِّبَ النفْسِ ، وإلاَّ أصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ) . وفى الصوم الشرعى من أسبابِ حفظ الصحة ورياضةِ البدن والنفس ما لا يدفعُه صحيحُ الفطرة . وأما الجهادُ وما فيه من الحركات الكلية التي هي من أعظم أسباب القوة ، وحفظ الصحة ، وصلابةِ القلب والبدن ، ودفعِ فضلاتهما ، وزوالِ الهم والغم والحزن ، فأمر إنَّما يعرفه مَن له منه نصيبٌ ، وكذلك الحجُّ ، وفعلُ المناسك ، وكذلك المسابقةُ على الخيل ، وبالنِّصال ، والمشىُ في الحوائج ، وإلى الإخوان ، وقضاءُ حقوقهم ، وعيادة مرضاهم ، وتشييعُ جنائزهم ، والمشىُ إلى المساجد للجُمُعات والجماعات ، وحركةُ الوضوء والاغتسال ، وغير ذلك . وهذا أقلُّ ما فيه الرياضةُ المعينة على حفظِ الصحة ، ودفع الفضلات ، وأما ما شُرع له من التوصُّل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ، ودفع شرورهما ، فأمرٌ وراء ذلك . فعلمتَ أنَّ هَدْيَه فوق كل هَدْىٍ في طبِّ الأبدان والقلوب ، وحفظِ صحتها ، ودفع أسقامهما ، ولا مزيدَ على ذلك لمن قد أحضر رشده .. وبالله التوفيق .
|